كتاب عدن

الجنوب بين الدولة واللا دولة




بقلم: د. عيدروس نصر ناصر
بموجب التعريف الأكاديمي فإن الدولة هي كيانٌ سياسيٌ اجتماعي، يعبر عن درجة من درجات التطور السياسي والاجتماعي-الاقتصادي والمؤسسي-القانوني على بقعةٍ جغرافيةٍ معينة، وفي مرحلةٍ تاريخيةٍ معينة من مراحل تطور الشعب الذي يقطن أراضي هذه الدولة.
وبموجب هذا التعريف فإن للدولة عناصرَ ثلاثةٌ تعبِّر من خلال اتحادها ببعضها وتفاعلها مع بعضها عن وجود الدولة، وهذه العناصر هي:



١. الشعب: وهو مجموع السكان بمختلف طبقاتهم وانتماءاتهم الجغرافية والجهوية والطبقية المنضوية تحت لواء هذه الدولة.
٢. الأرض: وهي النطاق الجغرافي بمساحته وتضاريسه وما يحتوي من ثروات وموارد طبيعية وغير طبيعية.


٣. النظام السياسي: وهو عبارة عن منظومة القوانين والنظم الدستورية والأجهزة والمؤسسات الساهرة على تنفيذ تلك المنظومة.
ولكل من هذه العناصر الثلاثة تعريفه المعقد الذي لن نخوض فيه طويلاً، لكن ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى أن غيابَ أو ضعفَ واحدٍ من هذه العناصر الثلاثة يجعل الدولة بحكم الحضور الضعيف أو اللاموجود، لأن العنصرين المتبقيين لا يصنعان دولةً ولا يعبران عنها بأي حالٍ من الأحول.



ومن نافل القول إنه وتبعاً لدرجة قوة حضور هذا العنصر أو ذاك أو بعض العناصر أو كلها تندرج مستويات حضور الدولة قوةً وضعفاً.
ولذلك يتحدث خبراء السياسة والقانون والتاريخ والسوسيولوجيا والفلسفة السياسية عن درجات ومستويات قوة الدولة بين دولة مستدامة، ودولة مستقرة ودولة متوسطة ودولة هشة وأخيراً دولة فاشلة (بموجب تقرير صندوق السلام في واشنطن للعام ٢٠١٩م).
والخوض في هذه المسميات يستدعي تشعبات قد لا يتسع المجال لها هنا، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو أين موقع اليمن من هذا التصنيف؟

ربما كنت قد أشرت في منشورٍ سابقٍ إلى الجدل الواسع الذي شهدته الأعوام ٢٠٠٨-٢٠١٠م بين النواب والناشطين السياسيين والصحفيين المعارضين والموالين للسلطات اليمنية حيث كنَّا في معسكر المعارضة نتحدث عن اليمن كـ”دولةٍ فاشلة” وكان الزملاء الموالين والمنتميين إلى معسكر السلطة يتصدون لهذه الأطروحات معتبرين ترويجها حديثاً معادياً ويخدم أعداء “الثورة والجمهورية والديمقراطية والوحدة”.

وحينما صدر تقرير منظمة الشفافية الدولية جاء تصنيف اليمن ضمن مجموعة الدول الهشة، وخرج حينها بعض مؤيدي النظام والمنتميين إليه مبتهجين أيما ابتهاج بكون الدولة في اليمن ليست فاشلة وإنما هي “دولةٌ هشَّةٌ”، وراح بعضهم يتشفون بالمعارضين الذين كانوا يتحدثون عن “الدولة الفاشلة”.

كان ذلك قبل عقد ونصف من الزمان، لكن ما فات القائمين على النظام حينها هو أن الحالة يمكن تطويرها أو تطوُّرها في أحد الاتجاهين، إما التوسط فالاستقرار والاستدامة، وإما الفشل والانهيار، وهذا الأخير هو ما حصل بعد سنتين أو ثلاث سنوات فقط.
أما الحالة القائمة اليوم فهي فشلٌ وانهيارٌ بكل المعاني والأبعاد، هذا إذا افترضنا أن اليمن ما تزال فيها (دولة)، مع غياب كل المعايير التي تؤشر على وجود تلك الـ(دولة)، لكنه يمكننا الحديث (ولو مجازاً) عن (دولتين) فاشلتين معروفتي المكان والزمان والعنوان.
ولندع الحديث عن (دولة) الشمال، (دولة) الحوثيين القائمة على مساحة الجمهورية العربية اليمنية (السابقة)، ليس لأن الأمر لا يعنينا، ولكن لأن البحث في حالتها يطول ويتشعب وقد نتوقف عنده في مرحلة لاحقة، ولنأخذ حالة (دولة) الشرعية.

إنني أضع مفردة دولة بين قوسين، لأنني أتحدث عن تعبير مجازي وافتراضي فقط، وليس عن (دولة) ولو بملامح النواة أو البذرة الأولية لمعنى (الدولة) ومضمونها، في الشمال أو في الجنوب.
إن اليمن يعيش حالة (الدولتين) في ظل اللادولة.
وحينما نتوقف عند (دولة) الشرعية، بكل مكوناتها السياسية، فإن لدينا عنصران فقط من عناصر الدولة وهم النطاق الجغرافي المعبر عنه بالأرض وثرواتها ومواردها وموانئها وبحارها وحدودها، والشعب بسكانه ومكوناتها الديمغرافية والطبقية المختلفة، لكن هذين العنصرين يفتقدان للعنصر الثالث المعبر عن الجهاز العصبي والهياكل الرئيسية لمنظومة الدولة، وهو النظام السياسي والمؤسسي بمنظومته القانونية والدستورية وبجهازه الإداري والتنفيذي والقضائي والنيابي الساهر على تنفيذ منظومة الدستور والقوانين والإطر المنظمة لحياة الشعب والملزمة بتوفير عوامل هذه الحياة واستقرار الشعب ونهوضه، وما يحتاجه من خدمات أمنية واقتصادية ومعيشية عامة وتعليمية واجتماعية ودفاعية وتنموية، فما من وظيفة من هذه الوظائف أنجزها القائمون على الحكم في جنوب اليمن، وهم اليوم يدعون أنهم جهاز (الدولة) (الشرعية).

وهكذا فإن وضع الدولة الفاشلة هو أرحم بكثير من الوضع الذي تعيشه مناطق حكم هذه الـ”شرعية” الغائبة، لأن الدولة الفاشلة قد تمتلك جهازاً إدارياً ومؤسسات قضائية وتنفيذية وأمنية وعسكرية حكومية، لكنها تكون غيرَ فاعلة وفي الغالب عاجزةً عن القيام بأبسط وظائفها، أما عن حالة شرعيتنا “الغريبة” فإنها ليست فقط عاجزةً وفاشلةً، بل إنها تعمل على الضد من مصالح ومتطلبات حياة الشعب الذي يفترض أنها نظام الحكم فيه.

إن اللادولة في الجنوب هي نتاج طبيعي لحالة الازدواج اللامنطقية التي تعيشها (السلطة) القائمة والتي يتحكم فيها أعداء الجنوب، المتمثلين بتحالف حرب 1994م على الجنوب، هذا التحالف الذي دخل الجنوب كقوة غزو واجتياح وبعد ما دحره الجنوبيون بتضحياتهم عاد إليهم من باب المتحالف معهم ليواصل سياسات الغزو والحرب والتدمير التي دشنها يوم 7/7/1994م.

وفي ظل هيمنة هذا التحالف لن يعرف الجنوب عافيةً ولن تقوم له قائمةٌ ما لم ينتفض، هذا الشعب قاطبةً في وجه هذا التحالف البغيض الذي ما إن دخل الجنوب حتى دخلت معه كل علامات الفساد والإفساد وانحلال المجتمع مادياً ومعنوياً وتربوياً وأخلاقياً وخدمياً، ولن يتغافى الجنوب إلا بزوال ممثلي هذا التحالف من واجهة الحكم.
ولله عاقبة الأمور.

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى