مقالات

اليمن في منعطف حاسم.. حل جزئي أو حرب مستدامة


من رحم التحولات التي أتت على كل شيء في مشهد مسكون بالحرب والعنف والجراح والمطالب القديمة المتجددة ولد المجلس الانتقالي الجنوبي عام 2017 ليصبح الرافعة الأساسية للقضية الجنوبية.


ورث مجلس القيادة الرئاسي في اليمن العديد من تعقيدات وملفات المشهد اليمني الملغوم، وفي مقدمة تلك الملفات القضية الجنوبية التي ظلت على مدى ثلاثة عقود أكثر القضايا إشكالية، حيث مرت بعدة مراحل وفشلت كل جهود احتوائها سياسيا أو عسكريا أو أمنيا، واستمرت رقعتها في الاتساع جغرافيا واجتماعيا دون أي بوادر حقيقية للحل.

بدأ التعامل مع القضية الجنوبية كملف مطلبي للكثير من المتضررين من حرب صيف 1994 وما تلاها من إجراءات، بعضها متعمد والقسم الأكبر منها نتيجة ممارسات غضت السلطة المركزية المنتصرة في صنعاء الطرف عنها.

كان الخطاب السياسي في صنعاء يتأرجح ما بين إنكار القضية الجنوبية ومطالبها المتصاعدة حينا واعتبارها تحديا سياسيا وأمنيا حينا آخر، الأمر الذي حال دون التوقف بجدية أمام ظاهرة تتسع، قبل العودة في مرحلة لاحقة للتعامل مع مطالب فردية وجماعية طغت عليها الشعارات وكان قطار الحراك الجنوبي قد تجاوزها بالفعل.

الفرصة الأخيرة تبددت أيضا كسابقاتها، نتيجة تمسك بعض الأطراف اليمنية التقليدية بخطابها القديم في التعامل مع الجنوب وقضيته، دون مراعاة التحولات المتسارعة التي غيرت الكثير من آليات المشهد اليمني وأولوياته

وخلال تاريخ الصراع بين السلطة المركزية في صنعاء بكل ما تمثله من مراكز قوى وبين الحراك الجنوبي بأطواره وتحولاته المختلفة، برزت ثلاث فرص ضائعة في التاريخ اليمني المعاصر، الفرصة الأولى كانت عند التوقيع على وثيقة العهد والاتفاق التي بددتها حرب 1994، أما الفرصة الثانية فقد لاحت عبر مؤتمر الحوار الوطني الشامل في 2013 وانتهت بالاجتياح الحوثي لصنعاء في سبتمبر 2014 والانقلاب على مخرجات الحوار.

الفرصة الثالثة والأخيرة باعتقادي تشكلت في ظروف بالغة السوء، بعد اجتياح الحوثيين لعدن وباقي محافظات الجنوب في مارس 2015، وفي خضم حراك ثوري شمل عددا من مناطق اليمن شمالا وجنوبا لمواجهة المشروع الحوثي، حيث كانت المقاومة ضد الحوثيين مظلة مناسبة لإعادة بناء المفاهيم والعلاقات والوصول إلى صيغة وطنية جديدة تتضمن حلا ثوريا عادلا للمطالب الجنوبية.

الفرصة الأخيرة تبددت أيضا كسابقاتها، نتيجة تمسك بعض الأطراف اليمنية التقليدية بخطابها القديم في التعامل مع الجنوب وقضيته، دون مراعاة التحولات المتسارعة التي غيرت الكثير من آليات المشهد اليمني وأولوياته.

عند هذه النقطة ومن رحم هذه التحولات التي أتت على كل شيء في هذا المشهد المسكون بالحرب والعنف والجراح والمطالب القديمة المتجددة، ولد المجلس الانتقالي الجنوبي في العام 2017 ليصبح الرافعة الأساسية للقضية الجنوبية، مع وجود أفرع صغيرة للحراك الجنوبي أقل نفوذا وفاعلية.

شهدت الفترات التالية موجات من الصراع المتقطع بين الانتقالي وبعض القوى اليمنية التي تحصنت خلف الشرعية اليمنية وخاضت باسمها حربا شرسة ضد المجلس الجنوبي، وكان في مقدمة تلك القوى حزب الإصلاح الخصم القديم للحراك الجنوبي والشريك الأساسي في حرب 1994، وقد تجاوز الصراع المتجدد بين الطرفين في حدته حتى الخطاب الموجه تجاه الميليشيات الحوثية في الكثير من الأحيان، وتحول الصراع السياسي والإعلامي في محطات إلى نزاع عسكري مسلح امتزج بشعارات جهوية وعصبوية، فيما ظلت محاولات البحث عن حلول هادئة لهذا الصراع وجذوره وخلفياته محل إنكار.


نجحت جهود قادها التحالف العربي في فك الاشتباك بين الانتقالي الجنوبي والشرعية اليمنية لمرات عديدة على أمل أن يتيح ذلك مجالا لإعادة ترتيب جبهة المناوئين للحوثي، وكانت أبرز محطات هذه المصالحة “اتفاق الرياض” (2019) الذي جعل الانتقالي شريكا في الحكومة الشرعية، لا خصما لها، ولكن هذه المعالجة الجزئية، لم تنجح في تطمين الجنوبيين وإقناعهم بأنهم باتوا جزءا أصيلا وحقيقيا وفاعلا من “الشرعية” التي كانت تحاربهم دباباتها بالأمس على مشارف مدينة شقرة، وهو الأمر الذي تم تلافيه إلى حد كبير من خلال مشاورات الرياض (2022) التي أفضت إلى خلق واقع جديد، تم وفقه إشراك الانتقالي إلى جانب القوى والمكونات اليمنية الأخرى الفاعلة على الأرض في قيادة الشرعية اليمنية خلال مرحلة جديدة عبر مجلس القيادة الرئاسي.

كان أحد أبرز مخرجات المشاورات اليمنية في الرياض، إعادة تطمين الجنوبيين بأن قضيتهم في مأمن وأن حلها سيكون ثمرة من ثمرات هزيمة المشروع الحوثي في اليمن، غير أن ذلك لم يفلح في إنهاء حالة القلق وغياب الثقة بين المشاريع اليمنية المتصادمة في المجلس الرئاسي التي لم تتفق بعد على قائمة الأولويات، في الوقت الذي لم يستطع الانتقالي التخلص من خطابه السياسي القديم الذي دأب على توجيهه نحو الشرعية التي بات اليوم في رأس هرمها.

بلا ريب، يمر الانتقالي بمرحلة حاسمة ومصيرية في تاريخه، وكذلك مسيرة قضيته التي يرفع شعارها منذ إنشائه، وإذا كانت للمجلس تحفظاته العديدة حول أداء المجلس الرئاسي والموقف من قضية الجنوب الذي فجّر مجرد التلميح إليها أزمة بين رئيس المجلس الرئاسي والانتقالي، إلا أن المجلس الانتقالي أمام تحديات لا تتعلق بخصومه اليقظين والخطرين فقط، ولكن بطبيعة تعاطيه مع خصومه وأصدقائه خلال هذه المرحلة الحساسة التي تتطلب منه إنتاج خطاب سياسي يردم الهوة بين مواقفه المعلنة وهتافات أنصاره، وكذلك تحديد قائمة زمنية ثابتة تتضمن أهدافه المرحلية سواء قادت مفاوضات تمديد الهدنة إلى حل جزئي أو حرب مستدامة.


صالح البيضاني

صحافي يمني

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد ايضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى