عالم الفن

«المرهقون» يمثل السينما العربية.. و«اليمن» يجد لنفسه مكانة على خريطة برلين


طارق الشناوي:

المخرج عمرو جمال وفيلمه (المرهقون) هو عنواننا العربى وسط قليل جدًا من المشاركات المحدودة فى هذه الدورة التى أوشكت على الرحيل.

البداية فى هذا الفيلم (ضربة البداية) هى بمثابة التعاقد الموحى بين المرسِل والمستقبِل، الذى تتأكد حتميته عند مشاهدة الشريط كاملا.. قد يبدو العنوان (المرهقون) لو قارنته بالمعاناة التى يعيشها الإنسان اليمنى وتحملها لنا يوميا وسائل الإعلام تبدو الكلمة لا يتوافق مع ما يجرى حقيقة على الأرض، لأننا تعودنا على مشاهدة الدماء والدمار، يبدو الإرهاق بالمقارنة وكأنه لحظة استرخاء، إلا أن مدلول الإرهاق وصل بنا إلى المنتهى، فهى معاناة تجاوزت مرحلة القدرة على التعايش.

المخرج الذى شارك أيضا فى كتابة السيناريو مع مازن رفعت يقدم دائمًا سطحًا ناعمًا للأحداث.. أسرة بسيطة تريد أن تمسك بالحياة بأقل القليل منها، بينما كل ما يحيط بها يدفعها إلى الانسحاب التدريجى من الحياة.

الفيلم صار يحمل اسم هذا البلد (اليمن)، ولأول مرة كفيلم روائى طويل، لأن اليمن شارك من قبل بأفلام تسجيلية وقصيرة على ندرتها، استطاع المبدع اليمنى أن يعبر عن نفسه من ثقب إبرة، ولم يكن هذا هو إنجاز المخرج الوحيد، فقد قدم تجارب سابقة، منها (هاملت) على المسرح، فهو صاحب مشروع متكامل وليس مجرد فيلم.

المهرجان الوجه الآخر للكلمة، كمدلول هو الاكتشاف، هذا هو ما يمنحه خصوصية، ومهرجان برلين يحرص على الاكتشاف، كما أنه يضع السينما العربية بل اللغة العربية فى مكانة متميزة، فهى واحدة من سبع لغات تُكتب يوميًا على الشاشة قبل عرض الأفلام (المهرجان يقدم)، تقرؤها فى ثوان ولكنها تعنى لنا الكثير فى زمنٍ جفت فيه منابع الإبداع، وتقلصت مساحات التعبير المتاحة، ظل هناك سينمائى يتنفس، ومهرجانات تبحث أيضا عن الجديد.

اليمن هو صراع عربى ودولى، وجرح نافذ صار كابوسًا يستنفد الطاقات العربية. الكل ينتظر أن تقترن السعادة الحقيقية بهذا البلد الذى صارت السعادة فيه فى الذاكرة الجمعية مرادفة لاسمه، بينما الحقيقة غير ذلك تمامًا، الكل يخشى من الغد، وهناك ضربات هنا وهناك توجه بضراوة لهذا البلد العظيم.

نتوقف أمام الإرادة التى يمتلكها المخرج اليمنى أو العدنى كما يحب (عمرو جمال)، الذى لفت انتباهى إلى أن أغنية (وطنى حبيبى الوطن الأكبر) التى قدمناها مطلع الستينيات كانت تتغنى فى مقطع منها عن اليمن وتحديدا الجنوب، بصوت عبدالحليم وتلحين عبدالوهاب وتأليف أحمد شفيق كامل، (فى فلسطين وجنوبنا الثائر، ح نكملك حرياتك)، المقصود بـ(جنوبنا الثائر) هو عدن التى يعتز المخرج بانتسابه إليها.

الفيلم يمنى القضية واللهجة، إلا أنه أيضا استطاع أن يحصل على تمويل من السودان ومهرجان (البحر الأحمر). المخرج السودانى أمجد أبولعلا صاحب فيلم (ستموت فى العشرين)، والذى تحرر من الإنتاج فقط لنفسه، صار متواجدا بإمكانياته وراء العديد من التجارب المختلفة سواء قدمها سودانيون أو عرب.

شارك أمجد فى الإنتاج ممثلا للجانب السودانى، الفيلم يعنيه فقط البشر فى صراعهم من أجل الحياة، وعين المخرج تلتقط كل هذا الجمال والسحر فى المعمار اليمنى (العدنى)، السينما حتى لو لم تقصد ذلك بالضرورة ومع سبق الإصرار فهى تحافظ على الحياة وتوثقها. اللقطات الطويلة التى تأخذ مساحات مكانية على (الكادر) تتيح للمخرج، رغم صعوبتها، مساحات من الإضافة تمنح أيضا للمشاهد قدرا لا ينكر من تعدد زوايا الرؤية، فأنت تشاهد وتعيش وتتذوق، بل تنفذ حتى رائحة المكان للجمهور.

الإنسان اليمنى لا يريد سوى المقومات الأساسية للحياة هذه تكفيه، والمخرج حدد من البداية الهدف، لن يدخل فى جدل فكرى وصراعات سياسية، لأن قضيته أبعد من كل ذلك، ولأن أيضا السياسة بكل تفاصيلها تعبر عن لحظة آنية، قد تتغير المعادلات على أرض الواقع فى لحظات، ليصبح ما نراه على الشاشة خارج الزمن، ويبقى فقط هذا الإنسان.

المخرج يراهن فقط على الإنسان، لم يشارك المخرج أو بالأحرى يبدد طاقته فى معركة يجد نفسه فى النهاية مثخنًا بالجراح، لأن التداخلات السياسية معقدة جدا، ومصر منذ زمن جمال عبدالناصر صار اليمن بالنسبة لها يشكل مأزقًا، حتى هزيمة 67 نلحقها بتورط جيشنا فى حرب اليمن، عندما استنفد قواه ولم يجد شيئا يواجه به إسرائيل، مدى صحة ودقة المعلومات هنا ليس هو القضية، ولكن كحد أدنى ارتباط ما يجرى فى اليمن بمصر تحديدا، فهو عمقنا العربى عبر التاريخ.

«المعاناة اليومية» هذا هو بالضبط ما قدمه عمرو جمال، حتى مشاكسات الأمن وقوات الجيش للمواطن نراها جزءًا من الحياة، وتعمد ألا يضع خطًا فاصلًا بينها وبين ممارسة طقوس الحياة، فهو يمسك بذكاء بالخط الاجتماعى: زوج وزوجة وثلاثة أطفال، ينتظرون الرابع الذى يعنى زيادة فى المعاناة، وعلى كل المستويات، الاجتماعية والاقتصادية، الإجهاض ممنوع قانونًا ومحرم دينيًا، وهذا هو المأزق المباشر الخارجى، إلا أنه لا يشكل سوى إطار فقط لما يريده المخرج بهذا الشريط الذى ينضح صدقًا.

ذلك ليس القضية، توثيق حياة الإنسان هو القضية، ليظل هذا الشريط نابضًا بالحياة التى نسعى لأن يعيشها قريبا أهل اليمن الذى ارتبط بالسعادة، بينما الحقيقة أنه لا يعيشها، بل يموت من أجلها كل يوم!.

تعودت عند مشاهدة الأفلام العربية الاستعانة أحيانا بالترجمة المكتوبة على الشريط المعروض بالإنجليزية حتى لا يفوتنى مدلول بعض الكلمات العربية المغرقة فى عاميتها.. ولكن مع (المرهقون) لم أكن بحاجة إلى قراءة ترجمة. اللهجة اليمنية تصل مباشرة إلى الأذن والقلب والعقل والوجدان!.

المصري اليوم

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى