كتاب عدن

غموض احتمالات السلام




مصطفى النعمان:
تنتهي الحروب الأهلية عادة إما بسلام يفرض فيه المنتصر شروطه، أو باستسلام العاجز، وفي الحالين تكون التسوية السياسية غير العادلة أو الآمنة هي الأقرب إلى الواقع، إذا لم يكن الطرف الذي تمكن من السيطرة على زمام الأمور قد بلغ من السمو الأخلاقي والنضج السياسي والرقي الإنساني ما يكفي ليدرك خطأ افتراض أنه سيكون سلاماً راسخاً ودائماً.

ما نتابعه من أشهر غير قصيرة هو تواتر الأخبار عن محاولات جادة تبذلها السعودية يمكن وصفها بأنها أقرب إلى جس النبض لبناء الثقة منها للتوصل إلى اتفاقية ثنائية مع جماعة “أنصار الله” الحوثية، وهو أمر أرى أن من العسير إنجازه ما لم يدرك قائدها عبد الملك الحوثي أن هذا المسار هو مجرد خطوة في اتجاه تيسير العودة إلى طاولة المباحثات بين اليمنيين تحت مظلة الأمم المتحدة، وليس عملية منعزلة في فضاء خارج إطار الجاذبية السياسية والواقعية.

ما من شك في أن الهدنة التي بدأت في الثاني من أبريل (نيسان) 2022 كانت إيجابية في آثارها الإنسانية، إذ تمكن كثيرون من التحرك بأمان في عموم البلاد، وصار استخدام مطار صنعاء متاحاً وإن لم يكن بالقدر الذي يتمناه المواطنون المحاصرون، وأصبح دخول السفن وشحنات المشتقات النفطية أكثر وأيسر، وفي حين كان من المتوقع أن يتحدث قائد الجماعة في خطابه الأخير قبل يومين بإيجابية عما تحقق، استخدم جملاً ومفردات مكررة اعتدنا سماعها كثيراً وحملت في مضمونها التهديد والوعيد بالقدرة والجاهزية لاستئناف الحرب الشاملة بما يناقض المساعي والانفتاح السعوديين ونتائج اللقاءات التي تمت في صنعاء ومسقط برعاية عمانية، مشدداً على أن الهدنة لا تعدو كونها توقفاً مؤقتاً للتصعيد العسكري، مع التذكير بقدرات جماعته على الاستمرار في تعطيل وقف تصدير النفط حتى تدفع المرتبات من عائداته، ولم يتحدث عن فتح الطرقات المؤدية إلى تعز، وبين كل المحافظات اليمنية.

من الواضح أن قائد الجماعة يرى أن ما تحقق خلال سنوات الحرب الثماني هو “صمود” يجب أن تجنى ثماره بظن أنه يؤسس لمجتمع مثالي، من وجهة نظره، ينقاد بالمفاهيم الدينية والسياسية لجماعته، لكن من الجلي أنه لا يعي الآثار الكارثية التي يعانيها كل المواطنين في كامل الرقعة الجغرافية اليمنية، وهذه لا تقتصر على الخسائر المادية، فهي الأقل فداحة، إذ ستكون عواقبها المستقبلية أكثر تدميراً للمجتمع، ونحن نرى أن بذورها قد بدأت تثمر أحقاداً وكراهية وتشققات اجتماعية وتعميقاً للنزعات المناطقية والسلالية وتزايد استجلاب الروايات التاريخية التي تتنافس في البحث عن جذور الأسر والأفراد والغوص في انتماءاتها الجغرافية.

إن هذا الخطاب المتعالي والبعيد من الواقع المعيشي والاجتماعي الذي أرهق المجتمع اليمني وضربه في أعماقه، له دونما شك كثير من المؤيدين، لكنه ليس مطمئناً ولا مريحاً على الإطلاق لمعارضيه ومنتقديه، لأنه يتوجه بخطابه إلى أتباعه فقط، ولم يحاول أن يتقرب من الآخر المختلف، ولا أظنه يستمع إليه أو يكترث برأيه وموقفه منه، ومن هنا فمن المهم أن يستوعب قائد الجماعة أنه ليس منزهاً من الخطأ، وأنه غير قادر على حكم البلاد بالقسوة والترهيب من دون توافقات وطنية واجتماعية جادة وحقيقية، وانفتاح فكري ونفسي على الجميع، ولما كان قائد الجماعة هو الأقدر حالياً على الانخراط في مسار السلام وفتحه على مصراعيه، فستكون البداية هي اقتناعه بأن الحوار الحقيقي يجب أن يكون مع اليمنيين وبينهم أولاً وأخيراً.

الجميع يعلم أنني وكثيرين غيري حذرنا منذ البداية من خطورة التيه في مسارات الحرب، وقلنا إن إمكانات التوصل إلى مسار للسلام الحقيقي كانت متاحة في الماضي أكثر مما هي اليوم، ومرد ذلك أن أطرافاً يمنية وجدت مساحة إما للتسلط أو لجني الفوائد المادية أو الاثنين معاً بصرف النظر عن الانعكاسات السلبية التي قصمت ظهر اليمنيين وشردت كثيرين منهم وتسببت في دمار البنية التحتية، ناهيك بتمزيق النسيج الاجتماعي، وبث الفرقة بين اليمنيين بتسميات تنزلق بهم إلى قرون ماضية تحت مظنة أنها الرد العملي على ما يمارسه فريق آخر من العودة إلى الجذور.

من الطبيعي أن ينفرد قائد الجماعة باتخاذ القرار النهائي سلماً أو حرباً، لأن أنصاره وضعوه، وهذا حقهم، في مرتبة لا تجيز للآخر انتقادها أو حتى التعليق عليها، لكن ما ليس طبيعياً هو الظن بوجوب ذلك على الآخرين أو أن يحذو حذو أتباعه، فالتنوع والاختلاف الثقافي والمذهبي والمناطقي يجب أن يكون مصاناً باعتباره عامل قوة للمجتمع، وجداراً حامياً للأوطان، وليس بأية حال عامل ضعف ووهن وشقاق.

من المؤسف أن كل الأطراف اليمنية التي تخوض الحرب العبثية وضعت لها هدفاً وحيداً هو إقصاء الآخر وتدميره وصولاً إلى استئصاله بالقوة، ووضعت لها منهاجاً خطراً ومدمراً فصارت تتنافس بغباء في استخدام لغة ومفردات الكراهية والتحريض نفسها لنفي الخصوم بلوغاً إلى حد تخوينهم ونزع صفة المواطنة عنهم، ومن المحزن أن هذه الظاهرة الشاذة ترعاها مؤسسات رسمية، ويجري الإنفاق عليها من المال العام، وتوظيفها كأداة ملوثة في وجه المختلفين مع نهج هذا الطرف أو ذاك، والمحزن كذلك أن المهمة أوكلت إلى شباب لم يبلغوا مرحلة النضج السياسي القادر على كبح جماح التطرف والتشدد إلى حد التشفي بعذابات الآخرين.

إن الحديث عن السلام من الأطراف اليمنية لم يصل حتى الآن إلى مرحلة الجدية واستشعار المسؤولية الأخلاقية والوطنية التي توجب العمل الحقيقي والنزيه من أجل المصلحة العليا للبلاد وحماية سيادتها والحفاظ على كرامتها، وهي عناوين كبرى يجب أن تسكن ضمير كل اليمنيين، ومن دونها فإن التوصل إلى تسوية سياسية عادلة ودائمة سيكون ضرباً من الخيال، ومن السخرية أن أغلب الذين يقرعون طبول الحرب يعيشون مع أسرهم خارج ساحات المعركة، مكتفين بمتابعة أخبارها والعيش بعيداً من مآسيها ونيرانها، أو مستفيدين من استمرارها.

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى