دين وديناشؤون محلية

الإسراء والمعراج… مِنْحة ربّانية ومُعجزة نبوية



يوسف جمعة سلامة*

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.

إننا نعيش في هذه الأيام في ظلال شهر رجب، ولهذا الشهرِ شأن عظيم فهو من الشّهور الحُرُم، وفي هذا الشّهر من كلّ عام يتذكّر المسلمون ذكرى من أعزّ الذكريات، إنها ذكرى مُعجزة الإسراء والمعراج، الإسراء برسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى بالقدس الذي بارك الله حوله، والعروج به -صلّى الله عليه وسلّم- من المسجد الأقصى بالقدس إلى ما بعد سِدْرة المُنتهى، كما ورد في صَدْر سورة النّجم.
الإسـراء والمعـراج… مِنْحَـة بعـد مِحْنَـة
إِنَّ رحلة الإسراء والمعراج هي ثمار صبر السّنين، وفيض عطاء الله ربّ العالمين لرسوله الكريم سيّدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وذلك مصداقاً لقول الله عزَّ وجلَّ : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} ففي عام واحد تتابعت على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- الخُطوب، وأحاطت به المِحَن، فقد جاءت حادثة الإسراء والمعراج بعد نوازل عظيمة نزلت بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وأهمّها: فَقْدُهُ -صلّى الله عليه وسلّم- لِنَصيريْه في المجتمع (عمّه أبي طالب)، وفي البيت (زوجه خديجة -رضي الله عنها-)، فأصبح الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد موتهما في مكة وحيداً لا يَجِدُ أنيساً يُسَلّيه داخل البيت ولا نصيراً يحميه خارجه فَعُرِفَ هذا العام بعام الحزن، وكانت حادثة الإسراء والمعراج جائزة كبرى لنبيّنا -صلى الله عليه وسلم- ومِنْحَة بعد مِحْنَة أَيَّدَ الله سبحانه وتعالى بها محمداً -صلى الله عليه وسلم-، حيث فرّج الله كُربته وأزال هَمَّه ورفع قدره ويسَّر أمره، وهي مُكافأة لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- على وقوفه شامخاً أمام قِلاَعِ الكفر وعتاة المشركين، حيث لاقى -عليه الصّلاة والسّلام- صُنوفاً من الأذى حتى دَمِيَت قدماه، وأطلق مقولته المشهورة التي زلزلت أركان الدنيا (إِنْ لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أُبالي).
لقد كانت رحلة الإسراء والمعراج -وسوف تظلّ- مصدر هُدى، ومنبعَ يقين، لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً، فسبحان من طوى الزمان لنبيّه -صلى الله عليه وسلم-، فأسرى به وعرج، وعاد النبيّ الكريم -صلى الله عليه وسلم- إلى بيته وما يزال فراشه دافئاً!
مُعجزة الإســــراء
لقد سُميِّت السّورة الكريمة بسورة الإسراء تخليداً لتلك المُعجزة الباهرة التي أكرم الله سبحانه وتعالى بها رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، حيث خصَّه الله عزَّ وجلَّ بالإسراء والمعراج دون سائر الأنبياء؛ لِيُطلعه على ملكوت السماوات والأرض وَيُرِيه من آياته الكبرى، فقد أيَّد الله سبحانه وتعالى رسولنا -عليه الصّلاة والسّلام- بمُعجزات كثيرة، فشقَّ له القمر، وأَسَالَ الماءَ من بين أصابعه الشريفة، وأَلاَنَ له الحجر، وَحَنَّ إليه جِذع النخلة، إلى غير ذلك من المُعجزات، وكان من هذه المُعجزات «معجزة الإسراء والمعراج»، وهي انتقاله -صلّى الله عليه وسلّم- ليلاً من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى بالقدس، ثم العروج به إلى السماوات العُلى، حيث رأى من آيات ربّه الكبرى: {ما زاغ البصر وما طغى}، فكانت معجزة الإسراء والمعراج مظهراً من مظاهر التكريم الربانيّ لرسولنا -عليه الصّلاة والسّلام-.
إِنَّ مُعجزات نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ثابتة بالقرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الصحيحة، وقد بلغت حَدَّ التّواتر، فالإيمان بها لازم والتّصديق بها واجب، فلا مجال لإنكارها أو الشّكّ فيها بأيّ حال من الأحوال، وليس نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بِدَعاً من الرُّسل، فقد ثبتت لغيره من الرُّسُل معجزات عديدة، ولمّا كان هو آخرهم وأفضلهم، فقد اختصَّه الله -سبحانه وتعالى- بخصائص لم يَنَلْها أحدٌ سواه.
مُعجزة المعــــراج

من المعلوم أَنَّ الإسراء كان انتقاله -صلّى الله عليه وسلّم- ليلاً من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى بالقدس راكباً على ظهر دابة تُسَمَّى البراق، ومعه ملك الوحي جبريل -عليه السّلام-، أمّا المعراج فكان صعوده -صلّى الله عليه وسلّم- من المسجد الأقصى المبارك إلى السماوات العلا، يرافقه سيّدنا جبريل -عليه السّلام-، ثمّ إلى سِدْرة المنتهى حيث لا يعلم مدى ذلك إلا الله سبحانه وتعالى، فقد وصل إلى مقامٍ لم يبلغه أحدٌ سواه، حتى وصل -عليه الصّلاة والسّلام- إلى مرحلة كان فيها وحيداً دون جبريل أمين وحي السماء -عليه السّلام-، فنظر -عليه الصّلاة والسّلام- فلم يجد جبريل -عليه السّلام-، فقال: أَفِي هذا المكان يترك الحبيب حبيبه؟! فقال جبريل -عليه السّلام- للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-: (أنتَ إِنْ تَقَدَّمْتَ اخْتَرَقْتَ، وأنا إِنْ تَقَدَّمْتُ احترقْتُ).
إنَّ حادثة المعراج ثابتة في كتاب الله وسُنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فالآيات الأولى من سورة النَّجم تُبيِّن ذلك، كما ورد ذكر المعراج في الصحيحين.
دروس من الإسراء والمعراج
نتعلّم من هذه الحادثة المُباركة ضرورة الثّقة في الله سبحانه وتعالى لِمُواجهة ما نحن فيه من مصاعب، فعندما تشتدّ الأزمات يكون السبيل إلى الخلاص منها باللجوء إلى الله عزَّ وجلَّ، وصفاء النّفوس، والسّيْر على هدي القرآن الكريم وسُنَّة رسولنا الأمين -صلى الله عليه وسلم-.
ad
ونتعلّم من حادثة الإسراء والمعراج بأنّ المسلمين بصفة عامة وأبناء شعبنا الفلسطيني بصفة خاصة، أحوج ما يكونون اليوم إلى توحيد كلمتهم وجمع صفوفهم، وأن يكونوا مُتحابين مُتآلفين، امتثالاً لقوله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}.
وَتُعلِّمنا أحداث الإسراء والمعراج أنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ، وأنَّ الفرَجَ مع الكَرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسراً.
مِنْ كلّ هذه المعاني نفهم ونستنتج أنّ الأمل يأتي بعد الألم، وأنَّ المِحَنَ تسبق المِنَح، وأنّ الضّيق يأتي بعده الفرج، وأنّ مع العُسر يُسراً، فقد علّمنا القرآن الكريم هذه المفاهيم لِيُؤَصِّل فينا عدم اليأس والقنوط، والاستبشار دائماً، والثّقة في نصر الله لعباده المؤمنين، مهما ضاقت بهم السُّبُل وتقطَّعت بهم الأسباب، فهذه سُنّة الله في خلقه، لِيُمَحِّصَ المؤمنين وَيَمْحَق الكافرين، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}.
والمسلمون اليوم وهم يُحيون هذه الذكرى يجب أن يتذكروا مسرى نبيهم -عليه الصلاة والسلام- الذي يتعرض لمجزرة بشعة من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، فالقدس لا يُمكن أن تُنسى، أو تُترك لغير أهلها، مهما تآمر المتآمرون وخطَّط المحتلون الذين يسعون لطمس طابعها العربي والإسلامي وتحويلها إلى مدينة يهودية، ففي كلّ يوم تدفن جرافات الاحتلال الصهيوني جزءاً عزيزاً من تُراثنا، كما تتهيأ معاول الهدم لتقويض جزء جديد، إنهم يُريدون لمدينة القدس أنْ تندثر وأنْ يندثر أهلها، ولكنّ القدس ستبقى إسلامية الوجه، عربية التاريخ، فلسطينية الهوية، ولن يسلبها الاحتلال وجهها وتاريخها وهويتها مهما أوغل في الإجرام وتزييف الحقائق، فليس في العالم قاطبة مدينة تُثير الخواطر وتشحذُ خيال المؤمنين مثل القدس الشريف التي وصفها ابنها العلاّمة الجغرافي شمس الدين أبو عبد الله المقدسي في كتابه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم)، بأنها «أجلّ المُدن قاطبةً؛ لأنها مهبط الوحي ومدينة الأنبياء، ومجتمع الدنيا والآخرة»، هذه العبارات على إيجازها، تختصر تاريخاً مُمْتداً طوله أكثر من أربعة آلاف سنة، شهدت المدينة خلالها أُمَماً وحضارات، وتعاقب عليها أفواج من الغُزاة والطّامعين.
القدس تقول لكم: سوف يتراجع الظُّلم، وينهزم الأعداء، فالليل مهما طال فلا بُدَّ من بزوغ الفجر، وإِنَّ الفجر آتٍ بإذن الله، رغم أعداء أمتنا كلّهم.اللواء

* خطيب المسجد الأقصى

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى