كتاب عدن

السعودية و قطر.. جدلية التنمية والجيوبوليتيكا



احمد عبد اللاه


اعتمدت الدولة السعودية الثالثة منذ أواسط القرن الماضي سياسات الصبر الطويل في تعاملها مع قضايا داخلية وخارجية. صبر فاق حسابات التكتيك والاستراتيجيا، طوله دهر وعرضه عُمر.
ومن أراد أن يتأمل في هذا الامر عليه ان يحسب الزمن الممتد: من الطفرة السعرية الأولى للنفط وحتى أول برنامج تنموي برؤية شاملة.. ومن “اتفاق كوينسي” عام ٤٥ م حول إمدادات الطاقة مقابل الحماية و حتى توفرت القناعة بضرورة الاعتماد على الذات والتنوع في العلاقات والشراكات.. ومن “الصحوة” السعودية التي قادها رجال الدين وساهمت في المزيد من تأزيم الفكر الإسلامي ونشر بذور التطرف واختطفت المملكة لأكثر من ٤٠ سنة وحتى الإصلاحات الحديثة التي يقودها ولي العهد. وأخيراً العقود الطويلة التي استهلكها نظام التوارث التقليدي للعرش وتسلسل انتقال الحكم المستند إلى الأقدمية في السن على اعتبار أن “السلالة أهم من الكفاءة”، حتى أتى التغيير ودفع بجيل الشباب إلى الواجهة.

تلك نماذج من نمط التعامل الضبابي الذي أظهر جانباً كبيراً من الجمود ومن التغافل عن قضايا وتحديات مصيرية.
وفي المقابل كان النجاح الأبرز للمملكة في تاريخها هو الحالة الجغرافية وكيف أن شركة أرامكو حددت في الغالب إحداثيات الحدود غير القابلة للتفاوض مع الجيران. وهو ما ترك أثراً عميقاً وجروحاً في الذاكرة السياسية لأشقائها.

عزيزي القارئ، السعودية تحاول أن تقدم نفسها الآن بصورة مختلفة تماماً، ولديها رؤية تسعى من خلالها للانطلاق نحو نهضة شاملة، والتركيز على التنمية أكثر من الانشغال بالصراعات الجيوسياسية (كما قال وزير خارجيتها)، وإلى التغيير في طريقة التعامل مع ملفات إقليمية بالإضافة إلى خلق علاقات متوازنة بين الغرب والشرق.

أليست تلك وثبة تاريخية تجاوزت كلاسيكيات البيروسترويكا مع أن الأخيرة ليست إطار معياري إلا في تسارع الإيقاع؟
ربما. وبالرغم من أن الصورة تبدو جيدة حتى الآن إلا أن التجربة ما تزال في أولها وهناك تساؤلات كثيرة وتحديات داخلية وإقليمية ودولية.. فالسفن الكبيرة حين تدير دفتها تحتاج إلى مدى بحري واسع وإلى عمق كاف.

وفي سياق مقارن، تمتلك دولة قطر خامس أكبر احتياطي للغاز في العالم (إحصائيات 2022) وتعمل على أن تصبح المورد الرئيسي للغاز المسال، حيث يغطي الجزء القطري من “حقل غاز الشمال” مساحة تتجاوز نصف مساحة الدولة. ومع انقلاب الابن على أبيه عام ٩٥م وارتفاع أسعار الغاز، بدأت قطر تفكر جيداً كيف تنمو. ليس داخليا وإنما جيوسياسياً فاتخذت التنظيم الدولي للإخوان سيفاً وحصاناً متبنية سياسات “فضفاضة”. وقد نجحت كثيرا في أن تجمع بين منطقين متضادين في علاقاتها ونهجها. فهي من ناحية حاملة لقب “حليف رئيسي لأمريكا من خارج الناتو” و تستضيف على أراضيها أكبر قاعدة جوية امريكية.. ومن ناحية أخرى تعتبر الداعم الرئيسي لجماعة الإسلام السياسي التي تجاهد من أجل إحياء دولة الخلافة. تجاهر بالعمل من اجل حقوق الانسان والديمقراطية ولكنها لم تجرب ذلك في ديارها على الإطلاق بل أن نظامها لا يخرج عن النمط الخليجي التقليدي جداً، عدا أن لديها واجهة إعلامية تقدم نفسها كمنصة حرة لكل الأصوات، من هسهسة الاشباح غير المرئية إلى صياح الجماهير الثائرة في “ميادين الربيع”.

قطر بلد صغير، ولديها إمكانية أن تتحول إلى دولة عصرية و جزيرة فردوسيه مسالمة دون ضرر بالأمن العربي. أليس من الأفضل تسخير الأموال للتنمية والاستثمار وتعزيز الاقتصاد في المنطقة؟
نعم نعم ذلك ممكن ولكن الجيوبوليتيكا لا علاقة لها ب ١١٥٠٠ كم٢، المساحة الداخلية لقطر الصغيرة، وإنما بالطموح والدور الذي يمكن أن يلعبه الأمير في التهيئة “لدولة الخلافة” المزعومة بمساعدة الإعلام وشيوخ الإسلام السياسي، وثوار الربيع.

هل اقنعك هذا المنطق عزيزي القارئ؟ بالتأكيد لا، لكن بيت القصيد هو : لماذا كلما حبا الله بلداً بقدرات أو مكانة بمعنى ما، يسعى لمد نفوذه، ليس عن طريق تقديم نموذج حضاري متطور وإنما بنشر الفكر الديني الراديكالي بوسائل متعددة حتى يُغرِق محيطه العربي، ثم يصحو هو داخلياً تاركاً الجميع خلفه.. ويصبح الحجر الذي رفضه البناؤون هو حجر الزاوية.
احمد عبد اللاه

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى