المطار والمعابر والسلام
مايو 05, 2022
مصطفى النعمان
أكد البيان الختامي الصادر عن المشاورات اليمنية – اليمنية التي انعقدت في الرياض خلال الفترة من 29 مارس (آذار) إلى 7 أبريل (نيسان) 2022 أن الجميع داخلياً وإقليمياً ودولياً يعترف بـ “فشل الحلول العسكرية التي أدت إلى قتل وجرح الآلاف من اليمنيين، وتهجير الملايين، كما أدت إلى تدمير البنية التحتية، وبثت الفرقة والتناحر بين الأشقاء”.
جاءت الفقرة تأكيداً لفشل الحسم بالقوة، وأن فرصة نادرة قد أزفت لبدء التمهيد الجاد للدخول في مسار السلام عبر (هيئة التشاور والمصالحة) المتخصصة بـ”المساهمة في المصالحة والتشاور وتقريب وجهات النظر، وتقليص نقاط الخلاف بين الأطراف المعنية، دون استثناء، والانخراط في الحل السياسي، والجلوس على طاولة المفاوضات لمناقشة نقاط الخلاف، والتخلي عن الحلول العسكرية، بدءاً بتعزيز الهدنة الحالية والدخول في مباحثات سلام تحت رعاية الأمم المتحدة”. (ودون استثناء) تعني تلميحاً وتصريحاً “الحوثيين” إذا ما اقتنعوا في الدخول في مسار السلام مع بقية إخوانهم اليمنيين.
قد يبدو الأمر مبعثاً لتفاؤل البعض وابتهاجهم، لكن الواقع وما يحدث على الأرض ليس بالبساطة التي يتمناها كل يمني بعد نزيف الدماء والدمار، وبعد أن عجزت الحرب عن تحقيق مبتغاها، وأسفر طول مداها إلى بعث أحقاد كانت مدفونة في نفوس كثيرين، وعلت الصرخات للأخذ بالثأر، وسيكون من الصعوبة إعادتها إلى مرقدها بقرار أو بمجرد الرغبة، وذلك لأن الحرب أصبحت تجارة تغري مكاسبها فئة من الناس وجدوا فيها فرصة للإثراء وبسط النفوذ، وإن كان ذلك على حساب الوطن والمواطن.
كان مخيباً للآمال الخلاف حول تشغيل أول رحلة جوية من مطار صنعاء إلى مطار عمان في الأردن بعد إغلاق استمر ست سنوات، وتعرقلت الرحلة التي كانت ستمثل ضوءاً خافتاً بعيداً في نهاية سرداب الموت والجوع والرعب الذي يعيش فيه اليمنيون. وحين نقرأ النص الذي اتفقت عليه الحكومة مع جماعة الحوثي عبر مبعوث الأمم المتحدة سنجد أن ما عرقل التنفيذ هو غموض النقطة المتعلقة بالجهة المسؤولة عن إصدار الجوازات، فقد تمسكت الحكومة، ولها الحق في ذلك، بعدم أحقية أي جهة غير معترف بها دولياً إصدار وثائق سفر للمواطنين الذين يعيشون خارج نطاق سلطتها. لكن هذا الأمر كان من العدل ومن الممكن معالجته حينما جرى الاتفاق على تسيير الرحلة الأولى عوضاً عن الانتظار حتى الساعات الأخيرة للمطالبة به، فأصابت البسطاء ممن تهيأوا للسفر بغرض العلاج أو الدراسة بالإحباط والغضب، وأيضاً الذين رأوا في الخطوة بادرة لتحريك المياه الآسنة.
وفي المقابل، ينتظر الملايين من سكان تعز أن تُقدم سلطة الحوثيين على فتح معبر “الحوبان” الذي صار إغلاقه عقاباً جماعياً لا يطال إلا الأبرياء من المواطنين الذين يضطرون، لقطع مسافة لا تحتاج في الظروف الطبيعية أكثر من دقائق معدودة، إلى خوض مغامرة محفوفة بالمخاطر في رحلة تستغرق أكثر من ثماني ساعات عبر طرق شديدة الوعورة.
إن فتح معبر الحوبان لا يستوجب أكثر من اتفاق إنساني محلي يجعل من المواطنين الهم الأول والوحيد، ويمكن الاتفاق على إعادة فتحه ساعات محدودة في البداية وبشروط تتوافق عليها الأطراف المعنية، وسيحقق ذلك عودة الروح إلى مدينة تعز وسكانها المحاصرين دون ذنب. كما أن إعادة الحياة إلى معبر “الحوبان” سييسر الوصول بين مدن الشمال كلها وتعز بيسر وسهولة، وسيجمع شمل أسر لم تلتق منذ سنوات بسبب طول الطريق والمعاناة المذلة.
في الوقت نفسه، هناك معبر آخر هو الطريق الذي يصل بين كثير من مدن المحافظات الجنوبية ومحافظات الشمال عبر محافظة الضالع، ومن الواجب التفكير والعمل سريعاً لإعادة تشغيله لينتفع بذلك من يسكن أقاربهم على جانبي البراميل والحواجز التي تفصل بين شمال اليمن وجنوبه.
إن البدء في فتح الطرقات بإجراءات تهدئ مخاوف كل الأطراف سيمثل، من وجهة نظري، حدثاً تاريخياً مهماً يسمح بإعادة خطوط التواصل بين اليمنيين الذين أرهقتهم ومزقت مشاعرهم الألغام والقذائف والصواريخ ونيران القناصة، وأنا على يقين أن خطوات بسيطة يمكن أن تخفف كثيراً من الأحزان والآلام التي تسكن اليمنيين، كل اليمنيين، وستبعث روحاً جديدة من الرغبة في التسامح والمصالحة.
أخيراً، لا بد من حديث حول مدينة عدن التي زرتها أخيراً للمرة الأولى بعد غياب عشر سنوات. كان الشعور غير مريح، لأني في زيارتي لها عام 2010 لم أكن أشاهد أي نقاط تفتيش (على الرغم من حسن تعامل الجنود المكلفين بها حالياً)، ولا مواكب تعبر بسرعة هائلة لتفزع الناس، ولا سيارات مصفحة يستخدمها المسؤولون. لكن الحال اليوم تصيب المرء بالإحباط لما حدث لروح المدينة التي لجأ إليها كل يمني أراد الحرية والعيش الكريم في عهود الأئمة وبعدهم. فمن غير المقبول وغير المفهوم استمرار انهيار الخدمات، وتزايد قلق الناس، وتضاعف معدلات الفقر وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، على الرغم من أن الحرب في عدن انتهت في يوليو (تموز) 2015، ومنذ ذلك الحين عجزت الحكومات المتعاقبة عن تحسين الخدمات والأمن وتوفير العمل للشباب، وأصبحت ساحة صراع مسلح على النفوذ لم يستفد منه إلا قلة نادرة من الناس.
اليوم صار معلوماً أن عدن ستبقى لفترة ليست بالقصيرة مقراً للحكم، وهذا يستدعي:
أولاً: توحيد الأجهزة الأمنية والعسكرية وغير النظامية متعددة الولاءات، وليس مقبولاً طرح أي مبررات لعدم تشكيل قيادة واحدة، أو على الأقل إنشاء غرفة عمليات للتنسيق في ما بينها، للحفاظ على الأمن في المحافظات الجنوبية.
وثانياً: التواجد دون انقطاع لمؤسسات الدولة، ومن بينها كامل مجلسي النواب والشورى واللجنتين القانونية والاقتصادية ورئاسة هيئة التشاور والمصالحة، لأن هذه المكونات تتحمل مسؤوليات مستدامة، يجب التعامل معها ودراسة القضايا المناطة بها، التي تحتاج إلى التواجد الدائم إلى جوار مجلس القيادة الرئاسي، وإبداء الرأي بحكم أنها جزء من تركيبة الحكم الجديد، ووجوب الالتزام بما تقدمه من مشورة، وما تتخذه من قرارات.
وأخيراً: البحث في منح دور حقيقي للقطاع الخاص الجاد، وتقديم كل الضمانات المالية والإدارية والأمنية، كي يبدأ الاستثمار في القطاع الخدمي كالكهرباء وإدارة الميناء وتشغيل المصفاة وإعادة تأهيلها، فقد أثبتت الحكومات المتعاقبة منذ 2015 عجزها الفاضح عن إدارة أي منشأة حيوية، بل على العكس فإن الصراعات الشخصية داخل الجهاز الحكومي عطلت كل المحاولات، وجعلت القطاع الخاص يعزف عن الاهتمام بهذه المشروعات التي يمكن لها أن تمتص جزءاً مهماً من الشباب العاطل. سينتظر الناس، لكن ليس طويلاً، وسيراقبون من كثب ما سيفعل العهد الجديد.