بالضّربةِ القاضِيَة
ديسمبر 25, 2021
عدد المشاهدات 218
عدد التعليقات 0
بالضّربةِ القاضِيَة
إبراهيم يوسف – لبنان
القصّة من نسج الخيال
فلا وجود في الواقع للأشخاص
وسائر الإشارات
والأماكن الواردة في الموضوع
وأي شبه بين الأشخاص
والأحداث والأماكن
إنما هو محض صدفة.. وحسب
انتصفَ النهار ولمَّا يزلْ يغطُّ في نومٍ عميق. فمعالي الوزير أفرط في الأكل والسهر والشراب، وتهالك ليلة الأمس على المتع الحرام. وحينما أقبلتِ الخادم توقظه من النوم، لتخبره أن وفداً من مؤيديه أتى يزوره للتهنئة بالعيد؟ فتح عينيه قليلاً وقال لها حانقاً برماً، قولي لهم: البارحة كان العيد! وعاد فدفن رأسه في الوسادة ليستأنف نومه من جديد، والخادم تولاها الخجل، فتبسمت لهم وهي تصرفهم وتختنق في داخلها. لكنّها لم تبدِ أمامهم ما يجولُ بخاطرها فتخسر وظيفتها.
أما حرمُ معالي الوزير فامرأة فاتنة بحق. تنام في غرفة مستقلة حينما يأتيها الميعاد مرةً في الشهر، لا تكون في وضع مريح، ويتولاها اضطراب في جسدها، مشحون بالتوتر والقلق. فقد أفاقت كسولة من نومها عند الساعة العاشرة، مُعكّرة المزاج لا تقوى على النهوض. تثاءبت قليلا وهي تنظر إلى صورة زيتية قبالتها، كانت قد تلقّتها منذ أيام قليلة، هدية رأس السنة لمناسبة اقتراب العام الجديد.
صورة ملونة على كنبة بلون الزعفران، ترتدي فستاناً نيلياً واسعا يكشف حَيِّزاً من قناة مثيرة بيضاء، تنحدر من أعلى الصدر ثم تغيب تحت طيات الرداء. وقد عقصتْ شعرها الكستنائي إلى الخلف. تمسك بيدها باقة زهر من التولوپ بلون البنفسج، وتلقي باليد الأخرى على أريكة بجانبها.
تمطّت قليلاً وهي تتثاءب وتتهالك على نفسها قبل أن تترك السرير. سرير من خشب الأبنوس مطعّمٌ في بعض أجزائه بخشب الأرز؛ حَفَرَتْهُ وأتقنت صنعه أيدٍ مصريَّة حاذقة على شكل سفينية شراعيَّة، ثم توجهت إلى نافذة تشرفُ على الحديقة ففتحتْها، وأزاحت ستارتها ليدخل غرفتها الهواء والنور.
كانت تشعر بجفاف في حلقها، بسبب الشمبانيا والسجائر التي دخنتها في سهرة الأمس، ووصيفتُها بالتعاون مع الخادمة، كانت قد أعدَّت لها حماما من المياه الدافئة، والصابون الصَّيداوي المعطّر.
زوجة الوزير هذه فلاّحة ريفيَّة، تنحدر من عائلة فقيرة، تعمل في زراعة الأرض شمال البلاد.. إلاَّ أنها ذكية وجريئة وجميلة للغاية. تعصف في رأسها أحلام بعيدة، لم ترَها يوماً عصيَّة على التحقيق.
تحرّشت بسعادة الوزير واستدرجته بذكائها وفتنتها، فاستسلم لها دون أن تمكِّنه من نفسها حتى تزوجها وانتهى الأمر. لكنها بقيت قليلة الحيطة والحذر لا تخشى أمراً، وهي تتسلق المراتب لتبلغ غايتها. مقبلة على الدنيا بإسراف، بعيدة من الرصانة والمحاذير، لمن كانت في مقام زوجة للوزير.
نالت قسطا ملحوظاً من التعليم، وأتقنت الفرنسية والراء المُدَحْرَجَة لغة التخاطب في المحيط، واستولت على مشاعر الوزير، فتربّعت زوجة في قلبه تواكبه في مسيرته.. وحملاته الانتخابية.
تغمض عينيها وتتغاضى عن مغامراته العاطفية، وتتوسل سياسة الدهاء فَتُبَيِّت وتقرر وتنفِّذ كل ما ترغب بلا اعتراض. تأمر وتنهى بلطافة مشفوعة بابتسامة دائمة.. بلا قسوة أو تعنيف. ترتاد نادي التدريب على الفروسية، وتواظب على مواكبة المسارح، والمراهنة من الخارج في سباق الخيل.
تشتري ثيابها وعطورها ولوازم زينتها خلال سفرها، أو تبتاعها مستوردة من أرقى المحلات. تأقلمت وأتقنت بسرعة قياسية، شكل العيش في الاوساط المخملية، مع سكان القصور والدارات.
بَرَعَتْ أيضاً في تدبير الصفقات والتلزيمات، ومناقصات شديدة الدَّسم تديرها من بعيد، فتدر فيضاً من المال يصب في حسابها وحساب أفراد حاشيتها. وفي نهاية الصفقات المشبوهة؟ تتصدر صورها وسائل الإعلام، وهي تشارك على رأس الإفطارات الرمضانيَّة، أو تزور دور الأيتام والمستوصفات.
تتفقد في جولاتها المساكين وفقراء الأحياء الشعبية ودور العجزة، وتتبرع بسخاء لصالح دور العبادة، والمؤسسات الخيرية والتربويَّة، والعديد من أعمال البر والإحسان في دائرتها الانتخابية.
كانت السيدة تتحضر لسهرة رأس السنة، ولم تكن تفصلُها عن الموعد إلاَّ أسابيع قليلة، تكاد لا تكفي مصمم الثياب، ليعدّ لها فستانا تزهو به بين الحضور في واحدة من تلك الدور، التي نالت شهرة واسعة في البلاد، ويشرف على إدارتها، مصمم مشهود ببراعته في عالم الأناقة والأزياء.
يفعِّل خياله ليصل إلى عمق إحساس المرأة، بابتكار ثياب الفصول المستوحاة من الخامات الجديدة، وتناغم الأقمشة في الخطوط والألوان، فلا يتعدى إنتاجه من النموذج المستوحى القطعة الواحدة.
أعدَّتْ للسهرةِ ما يلزم، وتبادلتِ الرأي مع أصدقائها، من رواد الملاهي وهواة السهر، وكلهم من غلاة الأثرياء والمزاج، ممن ينتظرون هذه المناسبات. وتوقعت لسهرتها ويشارك فيها شاعر مشهور بقصائده التي ينظمها غالبا للغناء، وأملت أن تتفوق على سهرة السنة الماضية، وأن ترسو في كازينو الجبل أشهر مقاصف الليل، ويقتصر على طبقة من الرواد، بعيداً من عيون عامة الناس.
تدبرت كل ما يتعلق بالسهرة، ولم يبق لها إلاّ أن تحضِّرَ فستانا يليق بالمناسبة المنتظرة. لم تتناول إفطارها مما أعدوه لها باكراً، بعد أن انتظروها طويلا حتى تستيقظَ على راحتها من النوم. والسيدة كانت متعبة ونَفْسُها تعافُ الطعام؛ فاكتفت بتناول بعضِ العصير والقهوة، وتدخين بعض لفائف التبغ.
حينما نزلت إلى الحديقة، حيث ينتظرها السائق في سيارة فخمةٍ سوداء، زجاجها مغشى بلون الدّخان، وتتألف لوحتها من ثلاثة أرقام فحسب. كانت الساعة قد تجاوزت الموعد المحدد لها مع مصمم الأزياء، وأما حارس الوزير فمن عناصر الأمن، يرتدي ثياباً مدنيَّة ويخفي سلاحاً أميرياً تحت ثيابه.
بادر الحارس إلى فتح باب السيارة للسيدة، ثم أغلقه بعناية مع ابتسامة عريضة وانخفاضة ملحوظة من الرأس، فاتخذت مكانها في المقعد الخلفي ناحية اليمين، ليعود الحارس ويجلس إلى جانب السائق، ورائحة عطرٍ فرنسي نفّاذ مستخرجٍ من زهرة الغاردينيا، يفوح في السيارة وأرجاء المكان، يتسلل من خلال الأنف ويلامس الروح بطيب شذاه، فيُحَرِّكُ المشاعر ويعطلُ قدرتها على التَّحَكُّمِ بالأعصاب.
هكذا قطعتِ السيارة المسافة إلى دار الأزياء عبر جادة “الاستقلال”، تحفُّ بها أشجار الدّلب على الجانبين، وموسيقى راقصة تهواها السيدة تنبعث منخفضة الصوت من المذياع، فالهانم صحيح أنها زوجة رجل عالي المقام؟ لكنها في الواقع لم تزل تختزن في أعماقها بعض الميول الشعبية، تلك التي استوطنت في باطنها منذ زمن المراهقة، ونشأتها في ريف ضيعتها بين صبية معظمهم من الذكور.
هذه الميول تحملها على التعامل مع المقربين بالقليل من التحفظ والحذر، فتطيب نفسها وهي سكرانة؛ للاستماع لما يُروى لها من النوادر “الدَّسمة” والنكات. يحفظونها ويتحينون الفرص فيجتهدون في روايتها؛ كرمى لعيون الست التي يتبارى الكل في خدمتها، والترفيه عنها وهي مُتّعَكِّرَةُ المزاج.
دار الأزياء هذه تقع في حيٍّ راقٍ، يتصل بالشارع الرئيس الممتد شرقا من كازينو الجبل، صعوداً حتى أسفل محمية غابة الصنوبر ونهر”عشتار”. وتحتل الطبقات الثلات من “ڤيلا” قديمة تحيط بها حديقة مترامية الأطراف، غنية بأشجار الزينة والظل، ومساكب الزهور المتنوعة الغنية الأشكال والروائح والأصناف، والتحف التاريخيَّة المُختلَس معظمها من وزارة الآثار؛ وقصور ساسة الإقطاع.
تحولت الڤيلا إلى دار شهيرة للأزياء. باعها ورثة صاحب مصنع للتحف المميزة، وتبلغ قيمة بعض أنواع هذه “الأرتزنا” من السيوف، والخناجر والسكاكين المزخرفة بالعاج والياقوت، وأدوات الطعام المفضضة أو المذهبة، أسعاراً خيالية تتجاوز آلآف “الدولارات”. اختلف الورثة فيما بينهم فباعوا الدّارة، ونالوا من هذه الصناعة التراثيَّة البديعة، بسبب خلافاتهم وسوء الإدارة والنوايا المبيتة بينهم.
توقفتِ السيارة في باحة الحديقة، ليس بعيدا من مدخل الڤيلا الرئيس ناحية الشرق، وطلبتْ من السائق والحارس أن ينتظراها ريثما تنتهي زيارتها. تركت لهما ورقتين من فئة نقدية مرتفعة القيمة يشتريان ما يشتهيان من طعام وشراب، وتوجهت إلى المدخل. مدخل واسع يعلو درجات قليلة عن أرض الحديقة. ألقت نظرة سريعة على الأقمشة المعروضة في الطبقة الأولى، ثم صعدت الدرج إلى الطبقة الثانية، حيث صالة العرض ومكتب مصمم الأزياء؛ يساعده رهط من النساء الحسناوات.
لم تكن قد تعدت باب المدخل إلى الصالة؟ حتى فاجأتها سيدة من معارفها “هالة أبو الدَّهب”. زوجة الرجل الذي ترسو لمصلحته عروض معظم المشاريع، ممن ساهموا في تنفيذ سدّ نبع العسل، وإنعاش منطقة زراعية واسعة، لري الحقول والمزروعات، كانت تعتمد فيما مضى على الأمطار الموسميَّة.
سيدة فاتنة بحق تتجاوز زوجة سعادة الوزير في الجمال والمال. ألقت عليها تحية سريعة عابرة، لا تخلو من الصلف والكبرياء. ثم غادرت الدار دون أن تحفل بها أو تستوقفها ولو في مجاملة قصيرة.
سبقتِ الوافدة قهوتها إلى المكتب، وأحسنوا استقبالها كما يليق بزوجة وزير، وأخبرتها إحدى المساعِدات في الدار أنهم استفادوا من فرصة تأخرها في الوصول، فخصصوا الوقت الضائع للسيدة هالة زوجة أبي الدَّهب، ويشرف فستانُها على اللمسات الأخيرة، ليكون جاهزا قبل بداية العام الجديد.
فستان مبتكر أروع ما تجود به قريحة المصممين الملهمين. جرَّبته عارضةٌ الأزياء أمام عينيّ السيدة زوجة الوزير فأذهلها. درجة لونه عصيَّة على الوصف الدقيق! مزيج من لون الخزامى وزهر البَنَفْسج والنِّيليِّ الخفيف. مكشوفٌ عند الكتفين والظهر، ومشقوق يطل على معظم مساحة الساق.
يكشف من الأعلى عن قناة ضيقة بين النهدين، ويُذَكِّر على نحو لافت ببعض مذيعات القنوات اللبنانية على هوا الشاشات. هذه التحفة المبتكرة تضيق بدءاً من الصدر والوركين، ثم تنحدر طيَّاتُ الثوب الكثيفة من تحت الردفين لتلامس بلاطَ الصالة. والسيدة تولاها الذهول وسحقتها الغيرة، وهي ترى روعة ما تفتقت عنه عبقرية الأزياء، في فستان زوجة أبي الذهب، التي أهملتها عند وصولها للتو.
قبل أن يهبط المصمم من المشغل في الطبقة العليا، حيث يشرف بنفسه على تفاصيل الخياطة، كانت قد بيَّتَت في نفسها أمراً..؟ لِمَ لا يكون فستانُ تلك المتكبرة المغرورة من نصيبها هي بالذات..!؟ هكذا أطلقتْ “قذيفتها” في وجه مصمم الأزياء..!؟ قالت له سأدفع لك ضعف الثمن!؟ والرجل في البداية هالته خيانة السيدة صاحبة الفضل.. والفستان. لكنه في خلاصة المداولة التمس لنفسه الأعذار.
لا سيما والدار تعاني من ضائقة مالية، وتشكو من ركود في السوق في بداية انهيار الاقتصاد، إثر الفساد وتعثر القضاء، وشلل الإدارات والمشاريع الوهمية، وهجرة الشباب والحوادث الأمنية المتنقلة. تضافرت هذه الأسباب وطاولت اقتصاد البلاد، وأغرقتها في مزيد من الديون والإفلاس.
والمبررات التي سيسوقها إن لم تكن مقنعة للسيدة صاحبة الفستان..؟ فلن تستدعيَ لرقبته حبل المشنقة على القرار. كتبت له “شِكاً” بالمبلغ على الفور وقالت له: تصرَّف؛ سأنتظر منك الجواب.
ما جرى لم يكن بعيدا من مسمع إحدى عارضات الأزياء، فاستغلت الفرصة للوشاية، وقامت على الفور بإبلاغ زوجة المبجّل أبي الذهب صاحبة الفستان، التي تتردد سيرتها في أطراف البلاد، والمرأة طار صوابها من الخيانة كيف غدرت بها زوجة الوزير. هي التي لم تتعود أن تلعب دور الضحية أبدا.
لم تكتفِ باتصال هاتفي.. بل أسرعت بالحضور بنفسها في اليوم التالي إلى دار الأزياء. ضاعفت المبلغ للمرة الثانية، وكتبت للمصمم شكا بضعف مبلغ زوجة الوزير. وحسمتِ الأمر لصالحها. وحصلت منه على ما يؤكد التزامه الوفاء بالعهد. هكذا اعتذر الرجل إلى زوجة الوزير بأسلوب قاطع. أعاد إليها “الشك”؛ وأبدى أسفَه الشديد على فشله في الوصول إلى حل، مع السيدة صاحبة الفستان.
في كازينو الجبل ليلةَ رأس السنة. كانت الموسيقى تتعالى من الأوركسترا في صدر القاعة المعدَّة لاستقبال العام الجديد، والأنوار الخافتة لا تسترُ عُرْيَ صدور وسيقان النساء الفاتنات، وزوجة الوزير تبدو في كامل أناقتها. تتألق نجمة مشعة على حلبة الرقص، تتنقل خفيفة كالفراشة بهية كالأحلام.
تتلوى على أنغام “التانغو”، تترفق بها أيدي الفرسان المعجين، حينما أذهلتها المفاجأة وأحست بصاعقة تعصف بكيانها كلِّه، وهي ترى خَصْمَها هالة أبو الدَّهب تدخل عالية الجبين، تشخص إليها الأبصار وخادمتها تتبعها، والفستان بلون الخزامى إيَّاه الذي سحرها ونكَّدَ عليها عيشها، يتألق مستريحا على جسم الخادمة. الوسيلة المُهينة المبتكرة ؛ التي سحقت زوجةِ الوزير بالضربة القاضية.