ادب وثقافة

ويمنجلُ غربتي ” للشاعرة الأردنية القديرة آمال القاسم .

يناير 04, 2022
عدد المشاهدات 269
عدد التعليقات 2

دراسة نقدية بقلم : الأستاذ الناقد الأردني الكبير هاشم عبدالغني في قصيدة ” ويمنجلُ غربتي ” للشاعرة الأردنية القديرة آمال القاسم ..
 
آمال حسن القاسم الملقبة “بسكرة القمر ” أديبة أردنية  تنوعت كتاباتها الأدبية في شعر التفعيلة وقصيدة النثر والومضة والرسالة والخطابة والمقالة وقدمت العديد من الإضاءات النقدية والشهادات الإبداعية، شاركت في العديد من المهرجانات المحلية والدولية .عضو في مؤسسات ثقافية محلية وعالمية .. نشر لها قصائد ومقالات في المجلات والصحف العربية والعالمية وترجم لها العديد من قصائد إلى الإنجليزية والصربية والإسبانية والفرنسية، نشرت قصائدها في عدة كتب نقدية مترجمة إلى عدة لغات عربية وعالمية .. رئيسة اتحاد لقاء الشعراء والأدباء والفنانين العرب فرع / الأردن، حصلت على عدة جوائز عربية وعالمية ، حصلت على عدة اوسمة وجوائز منها :اجمل نص نثري عام ٢٠١٦ في الأدب النسوي، وحصلت على قلادة الأبداع في مهرجان القصيد الذهبي في تونس عام ٢٠١٦،كما حصلت على وسام بيت الثقافة والفنون في عمّان / الأردن، وحازت على وسام الأبداع الصادر من سويسرا عام ٢٠١٧.
 
كُتِبت عنها دراسات نقدية موثقة في الصحف المحلية والعربية والعالمية شاركت قصائدها في عدة كتب نقدية مترجمة، إلى عدة لغات عربية وعالمية.. لها مخطوطان قيد الطباعة بعنوان ” سكرة القمر ” و ” شهقة ماء “.
 
عنوان القصيدة (ويُمَنْجِلُ غُربتي) بؤرة اثارة وادهاش ، بؤرة تتجمع فيها دلالات النص ، من صور وافكار ورؤى، وهذا يندرج تحت ما يمكن ان نسميه الجمالية الفنية والشعرية للقصيدة….
من الذي يمنجل ( يجتث)غربة الشاعرة ،؟ والغربة اشكال متعددة منها : الغربة الذاتية ” الوحشة ” وغربة فقد الأحبة ،غربة البعد عن الوطن ، غربة الهجرة والنزوح من الوطن ، سنحاول الإجابة عن هذا التساؤل من خلال إلقاء الضوء على القصيدة ، التي تتسم بالصدق والرقي اللغوي الشفاف، والبناء الفني المتوازن والصدق العاطفي والزفرات الوجدانية .
 
في مطلع القصيدة تعرف الشاعرة بنفسها ” أنا يتم السؤال ”في اشارة إلى أنها تعيش أزمة حقيقية ،مبعثها  المعاناة والألم، تحمل سؤالها اليتم القلق  تطرق الأبواب باحثة عن إجابة تريح اعصابها ، وتبدد احساسها بالغربة  وفراق الأحبة ، الذي اوقعها في فخ الضيق والألم ، بسبب فقدانها للأمل والنظرة الإيجابية المستقبلية ،ومعاناتها من الجمود بسبب استحالة وجود شيء جديد في حياتها، بالإشارة إلى أنها  يتيمة متفوقة على اقرانها ، فهي سؤال صعب ،مطالبها وعرة وسهلة ، سؤال يطرق الأبواب بحثا عن اجابة تشفي صدرها ، وتواصل التعريف بنفسها ، أنا صرخة من القلب ، أنا صيحة احتجاج  مشبوبة العاطفة ، أنا وهن وضعف العشب في  الثرى الندي .
وتتابع الشاعرة تعريفها بنفسها ، أنا ضوء مصباح الرأي السديد ،أوضحه وأبينه وأحرره من الوهم والاعتقاد الخاطئ سعيا لمعالي الأمور ، أنا من يستطيع ترميم أثار الهموم وإعادة تشكيل وتعين الاتجاهات الصحيحة  لحياتي.
 
يمتصني الغيم رشفة رشفة .. رشفا رقيقا ، والصق أجزائي مرة بعد مرة بخيط أمل مرتجى تارة وبخيط الاستنزاف والابتزاز تارة أخرى , في ليلة باردة ، رشفت فيها  الهموم قطرة قطرة .
 
((أَنَا يُتْمُ السُّؤالِ،
أَقِفُ عَلَى كُلِّ بابْ .. أنا صَرْخةُ الْعُشْبِ …
في آهاتِ الثَّرَى .. أَنا فِضّةُ النّورِ في السّنا ..
أَنا رَميمُ الْبُوصَلاتِ.. يَمُصُّني الْغَيْمُ قَطْرةً .. قَطْرَةً ..
وَيُخيطُني خرائطَ للضّبابْ !))
 
أدركت الشاعرة بحواسها أن حظها عاثر ،ووجعها قديم قديم ، قبل أن تلدها أمها، وكل ما حولها يعرف ذلك ، حتى قلب أمها ،كان يعرف ذلك منذ بدء اعراض الطلق مصحوبا مع ألم الولادة ،وهي تدعو ربها بيقين ثابت  لا شك فيه ، أن يحفها ببركاته ويبارك لها في مولودها ،وهي في حالة من عدم الوضوح والتوازن بجانب تلة جدباء ،وقد اصابها التعب والاعياء ، وهي بين الحياة والموت .
 
((أَعْرِفُني قَبْلَ أنْ تَلِدَني أُمِّي ،
وَيَعْرِفُني النّعْناعُ وَالنّوّارُ والرّيْحانُ،
ويعُرِفُني مَعِي قلبُ أمّي ..منذُ تَيَمّمَ بكفَّيْها التّرابْ
ومُذْ صَلّى ماءُ يقينِها.. في سُرّةِ السَّرابْ ..!
قُرْبَ تَلَّةٍ تَلْهَثُ بِالرّمادِ والرّدى))
 
بعد حديث الشاعرة عن الألم الجسدي والعذاب النفسي والألم العاطفي ، الذي كابدته بعد وفاة والدتها وأفسد حياتها  التي ترقد عند سفح تلك التلة ، تنتقل للحديث عن الآلام المزمنة التي تجشمتها عند تلك التلة ،حيث تقول: كان جسدي المنهك الضعيف يستلقي على فراش بسيط تارة تصحبه الالام غير عادية ،وتارة يبتعد الألم ويتوارى، ونفسي يمزق ترددات الصدى ويدفنه في رئتي ،ويحش وحشتي، فيطمئن الجسد
ويسكن وجعه، الملفع في رداء شتوي بسيط .
 
((كانَ جسَدي يسْتَلْقٍي … بينَ ملحٍ وغيابْ
وكان نفَسي يخْتَرِقُ الصّدَى
يدُسُّ الرّيحَ في رئتيّ .. ويُمَنْجِلُ غَربَتي
فيستريحُ المدى … في مِعْطَفي الشِّتْويِّ))
 
بدأ الشاعرة البحث عن إعطاء معنى يوضح ما مرت به من احداث، من عمرها الذي مضى ، لجأت الشاعرة لقارئات الفنجان والأبراح والمنجمون ، الذين يدعون القدرة على كشف المستقبل ، واحوال الناس ،فلم تجد لديهم ما يشفي غليلها ويجيب عن تساؤلاتها، وتصفهم بالكذب ،وبأن كلامهم غير موثوق به . ومن الجدير بالذكر أن الاسلام حرم الذهاب للمنجمين والعرافيين والكهنة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :”مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم” .
((ثُمّ يُشْرِعُ صَدري للتّأويلِ .. ولِلْعُمْرِ الّذي غابْ !
لَوْني المُبَلَّلُ بالفناجينِ والبُنِّ …. يَرُجُّ الأبْراجَ  وَالتّقَاويمَ ،
لِيَتَرَجَّلَ الْجَوزاءُ مِنْ فُلْكِ ظنّي … ومِنْ احاديث الْعَرّافاتِ ،
والّذينَ نجّموا وما صَدَقوا :))
وتشير الشاعرة إلى أن الاحوال تتغير والامور تتبدل ، فهي شائكة ومتشعبة وحارة تشبه دموعي ، التي تفوح منه رائحته صفاء قلب ونقاء سريرة جدتي ، المطعم بالشوق لأيام خلت ، التي تلامس شغف القلب… “من نجد به الخير والإخلاص ندعو لبقائه، ومن فيه شر فليرحل” .
 
ويصيرُ الْبَحْرُ حَساءً حارًّا
يُشْبِهُ دمعي ..  رائحتُهُ كمّونُ جدّتي ..
المسافرُ في حَنين الْغَيْم ..وفي شغافِ السّحاب ..!
 
وتتذكر الشاعرة أيام الطفولة ، فيداعبها الشوق والحنين إلى ماض جميل فتحملها الذكريات إلى بيتهم القديم ، فالبيت القديم حنين لا يهجر القلوب فتستذكر شجرة التين  وما تبعثه فيها من توجع وتأوه ألماً ، ما زال مقيما في كيانها ، وتستذكر حنوها على عصفور جريح ،كانت الشاعرة تسترق لصوت لتغريده الذي كان يملآ المكان ، وقت الشروق والعروب ، وبحثها بين القش عن بيض الحمام ،كما تشير أنها تشعر بالخيبة والهزيمة ، لأنها فقدت الحكمة .. حكمة النمل ،حكمة النمل الذي ينظم انشطته ، فمجتمع النمل يعمل بشكل جماعي دون سيطرة مركزية او قائد ، كما تستذكر الشاعرة طقوس الشتاء ولمة العائلة ، في اجواء حميمة تكسر حدة الملل ونكهته الخاصة التي تميزه عن الفصول الأخرى، العامرة بالسهرات الجميلة ،حيث يتحلق افراد الاسرة حول موقد الحطب، التي تشتعل فيه نار التدفئة من شدة البرد، يتبادلون روايات واخبار القدامى  وطرائفهم .
 
تتذكر الشاعرة هذه الأجواء العائلية الحميمية، فتتألم من الداخل فتشعل نيران الحزن المعقد كسهم يقطع احشاءها، إلى جانب تذكرها المفرط للأحباب والاصدقاء  مما دفعها للتساؤل بدهشة وانفعال، بأي ذنبٍ يغادِرُ الأحبابْ والأصحاب !؟
 
((كَمْ كنْتُ _ يا دارُ _ أعْرِفُني !
وكَمْ لبِثْتَ يا أنينَ التّينِ … في وجعي !!
أفهمُ ألمي من أصابِعي ؛ حِيْنَ تعزِفُ على رِيشِ
عُصْفورٍ جَريحٍ ..!.. وحِينَ تُفتِّشُ بيْنَ الْقَشِّ
فلا تَجِدُ بَيْضَ الْحَمامِ ..! ..وحينَ تتَكسّرُ حكمَةُ النّمْلِ
في مسمعي ، .. وحين تُسألُ قشَعْريرَةُ المواقدِ :
بأي ذنبٍ يغادِرُ الأحبابْ والأصحاب !))
 
مشاعر حزينة تملأ قلب الشاعرة وتشعرها بالغربة والألم، فلا أحد يشعر بمقدار هذا الحزن إلّا الشاعرة نفسها، تتألّم من الدّاخل وتدمع من صميم قلبها، تعجز الكلمات عن وصفه لكنّ احساسها بالغربة يكشفه ،فالشاعرة تؤكد على أنها تدرك وتعلم الأسباب التي بعثت في نفسها مشاعر الحزن والألم الشديد، وفقدان القدرة على الاستمتاع بجوانب الحياة المختلفة ،خاصة حين تستيقظ صباحا مستذكرة أيام الدراسة، وهي تردد النشيد الوطني مع زملائها، باحثة عن وطن حر جميل، وحين اعاني من اضطراب في حاسة تذوق طعم منقوشة الزعتر . ومن اسباب حزني أيضاً الاشتياق  للأحبة والأصحاب  الذي يملأه الألم ،والذي لا راد له إلا التصبر على بعد الأحبة ، في اشارة لأغنية فيروز (ورقو الأصفر) رجع ايلول والأحبة يسكنون غيم احزاني ،بسبب الاحساس بالغربة نعم الغربة بمعناها الروحي والجسدي ، الغربة عن أحبة نحن جزء منهم وهم جزء منا ، وجوه عايشناها لسنوات ، فنبدأ حديث النفس للنفس ، لماذا حدث ويحدث كل هذا؟ وتأخذ الأسئلة بالتوافد على باب العقل ،طارقة إياه طالبة جوابه ولكن ما من مجيب.
((أفهمُ حُزْني ؛
حِينَ يَسْتَيْقِظُ النّشيدُ … في فمي باكرًا ..
ويبحثُ عن وطنٍ في جبينِ الصّباح ..
وحينَ لا يَبْتَسِمُ الزّعتَرُ… لِنَقْشِ الرَغيف ..
وحينَ تجْهلُ فيروزُ وَجْهي  … ولا يعرفُني أيلولُ ..!))
 
وتتحدث آمال القاسم عن جحود ونكران من صنعت معهم معروفاً ، الذين لطالما أخذت بأيديهم ، وسارت بهم نحو السمو والعطاء والرقي ،فما أصعب أن يتنكر لك من حولك ويطعنوك خلفا في الخفاء، ويتجردوا من المثاليات التي كانوا يرددونها وهي عندهم مجرد مبادئ لا محل لها من الاعراب بمثابة لباس يواري ما تخفيه حقيقتهم…فتشعر الشاعرة بالوحدة والغربة التي احدثت ثقوباً في جدران حياتها .
 
((وحينَ تَتَنَكّرُ البِئرُ لِقَرابِيني
 .. فأكحِّلُ أَجْفاني بالْمَسافاتِ ..
وأنامُ وحيدةً عَلَى الرّصيف ! …..في كُمِّ الْيَباب ..!))
 
بعد أن توغلت الشاعرة فيما تقدم في استعراض معاناتها وما نتج عنه من عذاب نفسي وجسدي أتعبها ،لأن التعبير عن مشاعرها وليد لتفريغ شحنة عاطفية ذات طبيعة مؤلمة… إلا أن الشاعرة امرأة قادرة على ترميم قلبها وروحها ،واستعادة ثقتها بنفسها ومواجهة عثرات الحياة بثبات وقوة .
فالشاعرة تتوجع وتتأوه.. فتستخدم كم الخبرية لبيان المعنى، للدلالة على أنها في ذهابها وايابها ، اصبحت المعاناة علامة سؤالٍ في ظنها  وتخمينها ، اقدر جراحي بالدموع المضاعفة ، واقنع ذاتي بجمع قواها المختلفة ما استطعت ، كي اعيد بناء وترميم اسرار قوتي الذاتية ، وذلك برط الألم بالأشياء التي اريد تجنبها او التوقف عنها ، وبالتصالح مع نفسي وقلمي ، قلم لن ينكسر او ينهزم ، قلم خطاه ثابتة واثقة ،  مستفيدة من العثرات التي مررت بها ، أعطي بلا شروط ،أقاوم المعاناة والغربة والعواصف مؤمنة أنها ستمر ،بالوقوف بحزم في مواجهتها والتغلب عليها ،وذلك بوضع خطة دفاعية ، عنوانها التحلي بالصبر والحكمة والخوق ،والتفاؤل ، بلا خوف او تردد .
((آهٍ .. كمْ غَدَوْتُ
عَلامَةَ اسْتِفْهامٍ في حَدْسِي .. !
أَقِيْسُ جُرحي بالدّمْعِ المُكعّبِ ..
وأُؤَذِّنُ في دمي ، كَيْ يُلملِمَ فِجاجَه  إليَّ
من كلِّ وادٍ..  وكَيْ أبني لحزني قلمًا مِنْ طِين ؛
يأبى أنْ تهربَ الأرضُ من تحتِه،..
يستقبلُ صخَبَ الرّعودِ، …يحتضنُ حيرةَ الْماءِ ..
لاااااا يخافُ …… إنْ ماتَ الرّبيعُ ..
ولا يهابُ كُنْهَ الْجَوابْ ..!))

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى