الشّعر ومأزق الورقة البيضاء
يونيو 15, 2018
عدد المشاهدات 757
عدد التعليقات 0
الشّعر ومأزق الورقة البيضاء
مادونا عسكر/ لبنان
“أعتقد أنّ صمت الشّعر والعجز عن كتابته ومأزق الورقةالبيضاء هي جميعها جزء من الشّعر نفسه. إنّها النّاحية الخفيّة من الكتابة الشّعريّة.إنّها ما يمكن تسميته ما وراء الشّعر أو ذاكرته الغائبة”. (عبدهوازن)
صمت الشّاعر الفرنسيّ بول فاليري قرابة الخمسة عشر عاماً قبل أنيكتب قصيدته الطّويلة الرّائعة “بارك الشّابة”. ولعلّه صمت قسريّ يخشاهجميع الشّعراء ويشكّل هاجساً حقيقيّاً في حياتهم. ولعلّه شبح العجز الّذي يتراءىلهم كلّما تأكّد أنّ الشّاعر لا يكتب متى يشاء بل ينتظر لحظة وحيٍ تزلزل كيانهوتضرم فيه نار الشّعر فيكتب. قد تكون الفترة الزّمنيّة بين نصّ شعريّ وآخر سنوات،أو أيّاماً أو حتّى ساعات، فهل هو الوحي الّذي يصمت، أم إنّه الشّاعر الّذي ما عادينفتح على هذا النّور الموحى به؟ فمن العسير القول إنّ الوحي ينقطع، وذلك لأنّهخيوط نور تتجدّد كالخلق فيكون الإبداع. ومن العسير استحضار النّور عنوةً بهدفكتابة الشّعر. والشّاعر الّذي يصارع ورقته البيضاء لينتصر عليها أتى بنصّ فارغ هشّفاقد للحياة.
قد يكون مأزق الورقة البيضاء كما يسمّيها الشّاعر الفرنسيمالارميه، هاجس جميع الشّعراء، لكنّه في الحقيقة ليس مأزقاً بقدر ما هو لحظةاتّحاد الوحي بالشّاعر ليكون الاثنان واحداً. فيستحيل الشّاعر هو القصيدة. ولئنكان الشّاعر يتعامل مع هذا الصّمت الشّعريّ كمأزق يضطرب ويخاف من فقدان القدرة علىالكتابة الشّعريّة في حين أنّ الشّعر هو الّذي يكتبه وليس العكس. لا بدّ من صمتيفرض نفسه، إنْ على مستوى الوحي أو على مستوى الشّاعر ليتاح للّغة الجديدة أن تولدوتتفجّر من أعماق الشّاعر. فيكون صمت الوحي المتّحد بصمت الشّاعر ذروة الولوج فيالشّعر لا أحد يتكلّم ولا أحد يسمع. لحظة تأمّل وارتقاء خالصين إمّا يدخلانالشّاعر في الصّمت النّهائي، وإمّا تولد قصيدة تُنسي ما قبلها ليتجلّى الإبداعخلقاً متجدّداً.
الشّاعر الحقيقيّ لا يكتب ذاته الّتي لا يعرفها يقينيّاً بلينتفتح على نور الوحي يقطف ومضاته ليكتشف قدراته ويصغي إلى صوته الدّاخليّ،ويتعرّف على ذاته من خلال هذا الوحي. وكلّما تقدّم بالمعرفة ازداد التّأمّلوالإصغاء وقد يبلغ هذا الصّمت الكبير الّذي يعتبره مأزقاً في حين أنّه القصيدةالأمّ، القصيدة الحقيقة الّتي هي الشّعر عينه. ومتى استحال الشّاعر لغةً بلغ منتهىالعالم الشّعريّ وما عاد بحاجة إلى ورقة بيضاء يسكب فيها ذاته بل احتاج إلى كونأرحب يجسّد فيه هذه اللّغة/ القصيدة.