مقابلات

الرئيس التونسي : لا نخفي هواجسنا من انجراف الأزمة في ليبيا

مارس 06, 2017
عدد المشاهدات 8251
عدد التعليقات 1
العرب هيثم الزبيدي 

تونس – يسود ممرات قصر قرطاج هدوء لافت. لعقود طويلة أعقبت الاستقلال، كانت جميع القرارات تخرج من أروقة هذا القصر. الرئيس الباجي قائد السبسي غيّر هذه المعادلة. فالرئيس الذي خبرته السنين يدرك أن تونس اليوم بحاجة إلى قائد للأوركسترا السياسية، يضبطها جيدا ويوجهها، ولكنه لا يشارك في العزف.

حكمة شيخ السياسة هي ما تحتاجه القيادات الشابة التي توجه الشأن التنفيذي في تونس ما بعد الثورة. الرئيس الباجي بدوره، أحاط نفسه بعدد منهم في قصر الرئاسة. يريد أن يسمع من خلالهم نبض الشباب، وأن يرد على الشباب بلسان يفهمونه، بل بأدوات يفضلونها.

نشرة أخبار أنشطة الرئيس والبيانات الرئاسية الكبرى موجودة على صفحة القصر على فيسبوك قبل أن تقرأها عبر الوكالة الرسمية للأنباء أو تشاهدها في نشرة أخبار المساء. الفيسبوك هو المنصة الإعلامية الأكثر استقطابا للاهتمام بين شباب تونس. الباجي الذي اعترك السياسة منذ عهد الصحافة المطبوعة والراديو وشهد تغيرات العصر الحديث، يدرك كم أن الدنيا قد تغيرت.

عندما تجلس مع الرئيس الباجي ستعرف كم هو حاضر الذهن. الكلام متسلسل لا يغفل التفاصيل ويقدم الأولويات دون أن ينسى الأمور الصغيرة. الشيخ المخضرم لا يزال يستعين بأبيات طويلة من الشعر عندما يريد أن ينقل فكرة إلى جليسه. مفرداته دقيقة وحركة جسمه تشير إلى رغبته في تعزيز فكرة ما لمن يحاوره. كثيرا ما يستشهد في تحاليله بأقوال الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الذي ما فتئ يشكل مرجعية ثابتة بالنسبة للرئيس التونسي.

ثمة إحساس بالراحة لديه تلمسه وهو يتحدث. الرئيس الباجي يعتقد أن السنوات العجاف في تونس تقترب من نهايتها وأن البلد على الطريق الصحيح. لا يريد أن يقلل من ضخامة المهمة التي تنتظر الحكومة التونسية القائمة على حل المشاكل المستعصية اقتصاديا، ولكن من دون أن يصبح المواطن العادي هو الحلقة الضعيفة في عملية الإصلاح. تونس التوافقات السياسية شيء وتونس الإصلاح شيء آخر. التوافقات السياسية بين الأحزاب الكثيرة (بل الأكثر من اللازم) يجب أن تكون لغاية الإصلاح وليست هدفا في حد ذاته يسجل ضد الطرف الآخر.

تونس بلد مهم. حجمه الجغرافي وتركيبته السياسية وإمكانياته الذاتية تحدد طبيعة هذا الدور في الإقليم. التركيبة المغاربية، التي تجد مصر نفسها جزءا منها بشكل متزايد، تطمئن للدور التونسي. لا أحد في تونس يريد أن يتزعم المنطقة وهذا ما يجعل البلد ساحة لتبادل الأفكار حتى بين الأضداد، خصوصا ما يتعلق بالأمن الإقليمي. الرئيس الباجي يدرك أهمية هذا الدور التوفيقي ولهذا يتحرك ويحث دبلوماسيته الناشطة مؤخرا على أن تكون ملتقى للأفكار. الباجي لا يخفي هواجسه من انجراف الأزمة في ليبيا بعيدا عن اللاعبين الإقليميين من دول الجوار، لتجد المنطقة نفسها ضمن مشروع الاستقطابات العالمية الكبرى. يقول الباجي “ماذا نفعل إذا وجدنا روسيا جارا بتدخلها في الملف الليبي كما حدث الأمر مع الملف السوري؟ ما هي مبادراتنا إذا اتفق الروس مع الأميركيين والأوروبيين على جدول تدخل في ليبيا؟ نحن من سيدفع الثمن من أمننا واقتصادنا واستقرارنا. يجب أن نبادر ونجلس إلى الأطراف المعنية بالقضية الليبية محليا وإقليميا، وإلا فإن البدائل العالمية تحوم بالقرب منا. نحن متوسطيون جغرافيا، وأوروبا والغرب وأساطيل روسيا على بعد كيلومترات قليلة”.

الاتفاق التونسي المصري الجزائري الذي تم برعاية الباجي وسمي “إعلان تونس” هو خطوة في هذا الطريق. لا يتردد المسؤولون التونسيون في القول إن الدوافع الذاتية لا تقل عن “حب الخير للإخوة في ليبيا”. تونس يمكن أن تصبح المتضرر الأكبر من انفراط العقد بشكل كامل في ليبيا. التهديد الأمني الذي يمكن أن يأتي بصيغ الإرهاب العابر للحدود وحده يكفي. التأزم الاقتصادي في ليبيا يجر مشاكل في الاقتصاد التونسي تتجاوز تلك الحاضرة الآن عند مناطق المعابر الحدودية. هناك مئات الآلاف من الليبيين يعيشون في تونس أو ينتقلون إلى العالم من خلالها. ومن البديهي أيضا أن تونس يمكن أن تنتفع كثيرا من عودة السلم والاستقرار ودوران العجلة الاقتصادية في ليبيا. “إعلان تونس” هو التذكير بهذه الحقائق الإقليمية التي يحاول البعض التغافل عنها. الهاجس الليبي مفردة من مفردات السياسة في تونس.

الوضع الداخلي في تونس هو الملف المفتوح أمام الرئيس الباجي. يعرف أنه في سباق مع الوقت. العالم مشغول بقضاياه الأمنية والسياسية ولم يعد يلتفت كثيرا إلى بلدان الأزمات السياسية الصغيرة. لهذا يرى الباجي أن على تونس عدم التهويل في النظر إلى مشاكلها وأن عليها أن تعطي بعض المشاكل وقتها لتجد لها الحلول بدلا من القفز نحو حلول تجريبية غير مضمونة العواقب. سباق الوقت الذي يضعه الباجي نصب عينيه لا يعني انعدام التريث. والتريث لا يعني فقط أن يصبر الناس، ولكن أن يمنح الإعلام الناس الفرصة الحقيقية في التفكير بدلا من اللجوء إلى المبالغات والتصعيد.

هذا يضع الرئيس الباجي في موضع الناظر من وجهين. فالرئيس مدرك تماما أن نجاح التجربة الديمقراطية رهين حلقات مترابطة. يقول الباجي “تبقى الديمقراطية في خطر إذا لم يتحقق الأمن أو التنمية. ولا ديمقراطية ولا تطور اجتماعيا من دون الإعلام”. المؤسسات الإعلامية العامة والخاصة بكل أنواع منصاتها تعد في نظره من أهم مكتسبات الثورة. الرقابة على الحكومة التي توفرها هذه المؤسسات هي جزء من عملية التغيير الآمن نحو مجتمع مستقر ومنتج في آن واحد. يقول الباجي “فليكتبوا ما يشاءون طالما يكتبون الحقيقة. لا يوجد لدينا شيء نخفيه. ولكن الحقيقة فقط، وليس التأويل والافتعال”. هذا هو الوجه الثاني الذي يراه الباجي في الإعلام المهتم بالشأن التونسي. فالرئيس يعتقد أن هناك الكثير من التصعيد والمبالغات في ما يتم طرحه وأن أطرافا سياسية إما مشاركة فيه، أو أنها تجد فيه فرصة للنيل من المشروع السياسي الإصلاحي للرئيس والحكومة. ربما لا ينتظر الباجي هدنة من طرف الإعلام المتحامل، ولكنه يذكر القائمين عليه أنهم تونسيون بالدرجة الأولى وأن الإثارة هي آخر ما تحتاجه تونس الآن.

لا يخفي الرئيس الباجي خشيته من إفراغ الديمقراطية من معناها. الأحزاب السياسية والأفراد وصناديق الاقتراع كلها آليات للوصول إلى الحكم الرشيد وليست غايات في حد ذاتها. هي آليات التغيير ولكنها يجب أن تكون آليات الفرصة أيضا. لا يمكن أن تتحول رغبة التونسيين بالعيش في ظل حكم ديمقراطي تعددي إلى موقف يحول دون السماح للحكومات المشكلة تحت سقف هذه الديمقراطية من أن تأخذ فرصتها وأن تحقق ما يمكن تحقيقه ضمن المعطيات التونسية الذاتية وضمن المتغيرات العالمية الكبرى. يقول الباجي “ثقافة العمل تسير جنبا إلى جنب مع ثقافة التطور الديمقراطي. هذا ما جعل الغرب يتقدم، وهذا ما نسعى إلى ترسيخه في نفوس التونسيين”.

انطلاقا من مقاربة توافقية هدفها الحفاظ على السلم الأهلي، يرى الباجي أن للإسلاميين حصتهم في المشهد السياسي في تونس، وأن لا عودة إلى العزل أو الإقصاء. وكلما استقر وضع الحكم في تونس واستتبت الآليات، فإن ثقة الإسلاميين ستتعزز بخياراتهم السياسية والسلمية التي راهنوا عليها بعد انتخابات 2014. يقول الباجي “المشروع الوطني التونسي يقبل بالجميع. نجلس مع بعضنا ونتفاهم ونتوافق لأننا شاهدنا ماذا يمكن أن يحدث لنا أو للآخرين حينما تنقطع الصلات وتتصاعد الاستقطابات”.

زائر تونس هذه الأيام يبدأ بتحسس الفرق. الشوارع أكثر تنظيما ومظاهر عثرات ما بعد الثورة بدأت تزول. ربما هذا حال العاصمة ويحتاج الأمر إلى جولة موسعة في الجهويات لمعرفة إن كانت العاصمة تعكس الروح الجديدة التي بدأت تدب في البلاد. لكن المؤكد أن شيئا من التفاؤل صار محسوسا. الناس أكثر هدوءا واستجابة لما يرونه الأنسب لهم مما هو معروض من الحكومة أو من الأحزاب. إنتاج الفوسفات بدأ يعود إلى نسقه الطبيعي. العاصمة التونسية احتضنت منذ أسابيع تظاهرة دولية كبرى حول الاستثمار. الإجماع على الإصلاح هو لسان حال التونسيين اليوم.

فترة الهدوء وإعادة ترتيب الأولويات هي الخطوة الصحيحة لتحويل الثورة من مشروع نوايا إلى خطوات للتنفيذ. هدوء يبدأ في ممرات قصر قرطاج. هدوء رئاسي.

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى