ادب وثقافة

بين شظايا الزجاج وأحلام الكتابة: صراع الذات في مواجهة الأنانية والذكريات .

بين شظايا الزجاج وأحلام الكتابة: صراع الذات في مواجهة الأنانية والذكريات .

قراءة نقدية في قصة : تلك الليلة التي قررت فيها- بقلم : شهلا فيض الله-  السليمانية – كردستان العراق .

 

القصة :

تلك الليلة التي قررت فيها

 

      كانت ترتب الروايات فوق الطاولة الكبيرة في وسط غرفة الضيوف، فرفعت رأسها تنظر الى الساعة، مازال هنالك ساعة واحدة تفصلني عن موعد وصول الضيوف. قالت ذلك مع نفسها. مدّت يدها وأخذت أول كتاب ضمن الكتب الذي ترتبتهم و جلست على الأريكة، رغم قرب المدفئة، الّا أنّها كانت تشعر بقليل مِنَ البرد، تدثرت بسترتها الدكناء و قرّبت يدها مِنَ المدفئة قليلاً لتبعث في نفسها بعض الدفء.

      الرياح القوية في الخارج التي كادت تقلع الاشجار من جذورها بدأت تهدأ قليلاً و أخذ يداعب ذاكرتها شيئاً فشيئاً، كانا مستلقيان في غرفة النوم، ولكن صوت طقطقة أحدى النوافذ صدحت بالأرجاء، ذهبت مسرعة لأغلاقها، فهي تعلم من أين يأتي الصوت، أتجهت مباشرة الى المطبخ، بينما مازال صوت زوجها يرافقها من هناك: كالعادة، لابدَّ أنك نسيت أغلاق أحدى النوافذ التي تفتحينها كلَّ يومٍ قبل خروجكٍ حتى في هذا الشتاء القارس، هل يُعقلُ هذا؟! وكأننا تعفنّا!. قوة الهواء كادت تقلع النافذة من مكانها و بينما همّتْ مسرعة بالذهاب نحو النافذة، تفاجأت وهي ترتطم بطاولة الطعام، فكان لصوت وقوع كوب الماء، وشظايا الزجاج التي تناثرت سبباً لأرتفاع صوت زوجها مرة اخرى: ما الذي كُسِرً هذه المرة؟ لقد أفزعني ذلك الصوت!. دون اكتراثٍ لِما قالَ، تابعت خطواتها بحذر بين حطام الزجاجِ و بسرعة أغلقت النافذة. تذمرت مع نفسها خشيةَ أن يكون صوتهُ مصدر فزعٍ للأطفال، كان صوتهُ يجلجلُ بين أركان البيت، فصاحَ مرّةً أخرى: لو وقع على السجادٍ لما أنكسر، نظّفي المكان جيداً، هل مِنَ المعقول أنْ تغسل السجاد في هذا الشتاء؟! لا أريد أن يكون فعلكِ هذا سبباً في أذيةِ أحدنا. وقفت قليلاً تنظر الى شظايا الزجاج المتناثرة، لا تعلم مِنْ أين تبدأ، لكنها حتما ستبدأ..

   تذكرت الكتاب الذي رأته أكثر من مرة بيد أبيها وهو يقرأه، كان عنوانهُ: الف ليلة وليلة، أحدى الكتب المفضّل لديهِ قبل أن يخطفهُ القدر منها، وبعيون دامعةٍ، و صمتٍ، بحثت عنه كثيراً، لعلها تشمّ رائحة يديهِ على صفحاتهِ، لكنها أحسّت بمرارةٍ حينَ لمْ تشمّ تلك الرائحة الطيبة، لقد أخفتهُ أمها عنها لسنينٍ طويلة مع مجموعة كتب أخرى كذكرى لزوجها، لكن، عندما كبرت أعطتها ذلك الكتاب، قرأته بشغفٍ، فوجدته مازالَ يضمُّ بينَ صفحاتهِ نفس الحكايات التي كانت تحكيها لها جدتها وهي صغيرة، فصار هذا الكتاب مصدر الهامٍ لها، وأيقظَ خيالها، لقد اصبح الإلهام والخيال يكبران معها يوماً بعد يوم، ويتسعان كأتساع قصور حكاياتها. تناثرت قطرات الدمٍ كحبّات الرمان عندما وخزت قطعة زجاج في أحدى أصابعها، فلم تبالِ، ضمّدتْ أصبعها و أستمرت بتنظيف الارضية، رأت بجانب ساق الطاولة الخشبيّة، الدفتر و القلم، قد سقطا بفعل الهواء. جلست على أحدى الكراسي، فتحت الدفتر وأخذت تكتب. مع رفع خصلات شعرها الأسود المنسدلة على وجهها بين الحين والآخر كتبت صفحة كاملة، ثم راجعتها مع نفسها، و بأبتسامة كلّها رضاً، وبهدوءٍ، قلّبتْ صفحات الماضي البعيد الذي كان يزخرُ بالكثير منْ نتاج بنات أفكارها التي كانت تحرصُ على تدوينها في كل مرة حين تنتهزُ الفرصة رغم زحمة الوقت وانشغالها في أعمالها اليومية، أثناء غسل الأواني، الطبخ، تنظيف زجاج النوافذ، تحضير الشاي، تغذية الأطفال، وحتى وهي تقوم بنشر الغسيل واحد تلو ألاخر.. كانت تدوّنها على شكل ملاحظاتٍ لكي لا تنساها وبعد أن تُنهي من أعمالها ومشاغلها، ترجع اليها وتعيدُ كتابتها ليلا حيث الهدوء، تشذّبُ هذه الأفكار وتعيد صياغتها من جديدٍ، كان الليل أنيسها، فلا أحد يقطع خلوتها مع نفسها، ولا شيءَ يقطع سلسلة افكارها إلّا تلكَ النظرة الأنانيةً التي كانت تطاردها، نظرةً تكادُ تلتهم أنوثتها، وتعبثُ بقدسية جسدها، كانت غرفة النوم كابوساً يطاردها دائماً، ما أبشعَ أن تشعر الروح بأنانية رجلٍ يظلُّ يتربصها، ويحبُس انفاسها، وتبُعثر ما نسجته في أحلامها الوردية. 

    كم كانت تود ان تكتب قصة ليلة عرس بنت الجيران التي أرغموها على زواجٍ لمْ تتقبلهُ،  فمنذ تلك الليلة وهي لمْ تعد تكره ذلك الرجل فقط، بل كَرِهتْ حتى فارس احلامها!

      لعبة أيجاد الالوان في مرحلة الطفولة كانت اللعبة المفضلة لها ولصديقاتها، لقد كنَّ في كل مرة يخترنَّ لوناً، و مَنْ تستطعْ أيجاده أولا تكنْ هي الفائزة. منذ زمن وهي تتمنى ان تجعل لعبتهن لذلك اليوم  بباحة المنزل قصة او قصيدة شعر، حيث كان اللون الاسود مِنْ أكثر الألوان الذي يجدنهُ بسرعةٍ، لأنَّ أكثرَ الملابس المنشورة على حبلِ الغسيل كانت باللون ألاسود الذي أصبحَ اللون الوحيد المفضل لدى أمها وجدتٍها بعد فقدان والدها. أرتفعَ صوت زمجرة زوجها من جديد وهو يصرخُ بصوتٍ عالٍ: هل يحتاج تنظيف الزجاج كلَّ هذا الوقت؟ لابدَّ أنكِ عدتٍ مرة أخرى لذلك الهُراء المسمى بالكتابةٍ! وفجأةً وقع الكتاب من يدها، ففتحت عيناها اللتان غلبهما النعاس وسافرت بها بعيداً الى الماضي المليء بالكلمات التي من الممكن أن تهدم أنساناً أو تعيدُ بناءهُ من جديد، رفعت رأسها ونظرت الى الساعة، لقد أقترب موعد قدوم الضيوف الذين سيعملونَ معها مقابلة كروائية ناجحة. أخذت الكتاب و تأملته للحظات، مررت اناملها برفقٍ على اسمها المكتوب على الرواية بخط بارزٍ وكبير، و تحسست اسم الرواية ( تلك الليلة التي قررت فيها) ومن ثم أعادته الى جانب مجموعة رواياتها التي رتبتها، حينها دق جرس الباب…

 

القراءة :

تُعدُّ قصة / تلك الليلة التي قررت فيها / للكاتبة شهلا فيض الله بمثابة دراسة دقيقة للصراع النفسي والوجودي للمرأة في سياق اجتماعي مغلق، حيث يُقابل إبداعها وذاتها المبدعة دائمًا بالرفض والتمييز. القصة ليست مجرد سرد لحياة يومية أو مواقف بسيطة، بل هي تكثيف لحياة شخصية معذبة، تتداخل فيها لحظات الذاكرة والخيال مع الواقع المرير، حيث تتأرجح الشخصية بين الهروب إلى عوالم الكتابة وبين تقبل الجروح التي يسببها واقعها.

 

1- الكتابة كإعلان عن المقاومة الداخلية:

في قلب القصة، نجد أن الكتابة تُصبح فعل مقاومة، بل هي السلاح الوحيد الذي تملكه الشخصية لمقاومة الاضطهاد الداخلي والخارجي. الكاتبة تخلق صورة معقدة لشخصية تعيش تحت ضغوط هائلة، سواء من خلال علاقتها بزوجها الذي يعكس الأنانية والسلطوية في علاقات الرجل بالمرأة، أو من خلال تذكراتها الملتبسة مع الماضي. في كل لحظة، بينما تكتب، تكون الشخصية في حالة تفاعل دائمة مع قوى الماضي والحاضر التي تؤثر في أفكارها. الكتابة هنا ليست مجرد هروب أو وسيلة للتسلية، بل هي عملية تطهير نفسي وتجسيد للألم العميق الذي لا يستطيع اللسان أن يلفظه، وتعبير عن تدمير الذات في محاولة لإعادة البناء.

 

2- صراع الأنوثة والانكسار الذاتي:

تتناول القصة أيضًا قضية المرأة التي تتعرض لانكسار داخلي مستمر بفعل القيود التي يفرضها عليها المجتمع. في مشهد صدمتها بجزء من الزجاج المتناثر إثر سقوط الكوب، يمكن للقارئ أن يرى ذلك كرمزية للشرخ العميق في روح الشخصية. إنها تمشي بين شظايا الزجاج وتبدأ في جمعها، تمامًا كما تجمع بقايا حلمها المكسور. الفقدان هنا ليس فقط ماديًا، بل هو فقدان لحرية التعبير، ولحقها في العيش بسلام داخلي، فكل حركة وكل كلمة تتناثر من فم الزوج تُمثل سجنًا آخر.

 

في كل مرة يصرخ الزوج وينعتها بأنها تهدر الوقت في الكتابة، تزداد حدّة التوتر في روح الشخصية. الزوج هنا لا يمثل مجرد شريك في الحياة، بل هو تجسيد للأيديولوجية الاجتماعية التي تعتبر أن دور المرأة لا يتعدى واجباتها المنزلية، وأن أي محاولة للتمرد على هذا الدور هي “هُراء“. يعكس الزوج بهذا الصراع الداخلي الذي تعيشه المرأة في محاولتها بين حماية ذاتها وهدم تلك الحواجز الاجتماعية.

 

3- ذاكرة الموت والإلهام:

في القصة، تلعب الذكريات دورًا محوريًا في بناء الشخصية وخلق الإلهام. الكتاب الذي قرأه والدها / ألف ليلة وليلة / يصبح رمزًا لفقدانها، ولحظات دافئة من الطفولة التي تشتاق إليها. عندما تذكر والدها، تصبح الكتابة عندها فعلًا ملتصقًا بالذاكرة، بمثابة محاولة لاسترجاع الماضي المفقود. لكن الكاتبة تخلق مفارقة مؤلمة هنا، وهي أن الذكريات، رغم قوتها في تشكيل الذات، لا يمكن استعادتها كما كانت. فحتى الكتاب، عندما تفتحه، يبدو محملًا بالفراغ، لا تحمل صفحاته تلك الرائحة التي كانت تحبها، مما يعكس الإحساس بالفقدان المستمر، وعدم القدرة على العودة إلى لحظات كانت تمثل الأمان والهدوء. الكتاب يصبح هنا وسيلة لاستحضار الماضي، وفي ذات الوقت، هو تذكير بغيابه المستمر.

 

4- المساحات الرمزية: شظايا الزجاج واللون الأسود:

تعتبر شظايا الزجاج التي تتناثر في المكان واحدة من أبرز الرموز في القصة. هي ليست مجرد أداة غير قابلة للإصلاح، بل هي تمثيل لروح الشخصية نفسها: مكسورة، متناثرة، ولكن لا تزال قادرة على إعادة تجميع نفسها. عملية جمع شظايا الزجاج، كما في الكتابة، تتطلب إصرارًا وتحملاً للألم، ولكن أيضًا هو نوع من التحدي لأحوال الواقع القاسية. وهذا الصراع بين الألم والإبداع هو المحور الذي يتحرك فيه النص.

 

أما اللون الأسود الذي يظهر بوضوح في القصة من خلال الملابس التي كانت تنشرها الشخصية على حبل الغسيل، فهو ليس مجرد لون، بل هو أيضاً رمزية للخوف، الحزن، والفقدان. الأسود يعكس أيضًا حالة من العزلة والموت الرمزي في الحياة الداخلية للشخصية، فقد أصبح لونًا يطغى على كل شيء في حياة المرأة بعد فقدان والدها. والأسود هنا أيضًا يرتبط بالموت الاجتماعي لروحها المبدعة، التي تقاوم محاولة استعادة إنسانيتها من خلال الكتابة.

 

5- الإبداع والحياة اليومية:

من خلال كتابتها المستمرة، حتى في خضم الأعمال اليومية التي لا تنتهي، تقدم لنا الكاتبة صورة للمرأة المبدعة التي لا تترك نفسها تتفكك تحت ضغط الروتين. لكنها تخلق توازنًا دقيقًا بين العمل الجسدي والعمل العقلي. الكتابة تصبح متنفسًا شخصيًا بعيدًا عن عيون الآخرين، لكنها تظل دائمًا مهددة بالفشل بسبب الزمن الذي يلاحقها، والتحديات التي تفرضها الحياة اليومية. الكتابة تصبح في هذا السياق تذكيرًا بالإمكانية البسيطة للإنسان في خلق عالمه الخاص وسط فوضى الحياة.

 

الخلاصة:

تستحضر القصة بعمق صراعًا نفسيًا طويلًا بين الداخل والخارج، بين الذات وما يفرضه عليها المجتمع. الكتابة هنا ليست فقط فعلاً إبداعيًا، بل هي فعل من أجل البقاء، من أجل استرداد الذات الضائعة في زحمة الحياة والألم. / تلك الليلة التي قررت فيها / هي قصّة عن المقاومة، عن استعادة المساحات التي يراها الآخرون غير مهمة، ولكنها في الحقيقة تمثل كل شيء للمرأة. في النهاية، تظل الكتابة ساحة للحرية، ولكنها ساحة مليئة بالأشواك والدموع، كما في شظايا الزجاج.

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد ايضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى