خامنئي والحوثي.. لمن الإمامة بعد ضربة إسرائيل

هكذا تُختصر السياسة في صورة
بعد حرب الاثني عشر يومًا المذلّة، التي سُحقت فيها أوراق إيران في لبنان وغزة، وانهارت خلالها سردية المقاومة من بيروت إلى صعدة، خرج علي خامنئي للعلن، لا ليعتذر، ولا ليعلن تحمّلًا للمسؤولية، بل ليُصفّق له الحرس والفقهاء على كونه.. حيًّا! تلك كانت لحظة “النصر” في قم: أن الإمام ما زال يتنفّس، لم تكن لحظة تقويم أو مراجعة أو مساءلة، بل لحظة تأليه جديدة لزعيم لم يشهد ساحة قتال، ولا رفع سلاحًا، لكنه أصبح وحده معيار البقاء ومعنى الوجود، وكأن النظام الذي لطالما روّج لفكرة الشهادة، لا يُجيزها إلا على أتباعه، أما رأسه، فمُحرَّم على القدَر.
تلك ليست قراءة انفعالية، بل مقارنة ضرورية، ففي زمن الهزائم الكبرى، تتمايز القيادات، الزعيم جمال عبدالناصر، الذي تلقّى نكسة 1967 القاسية، خرج إلى شعبه معلنًا: “تحمّلتُ المسؤولية كاملة، وقررت أن أتنحى”، لم يُخفِ جسده، ولا صوته، ولا نظره في عين المصريين والعرب، أما خامنئي، فقد اختفى، كما يليق بالإمام الغائب، ثم خرج بعد ثلاثين يومًا في مناسبة عاشورائية، لا ليقدّم خطابًا، بل ليُظهِر وجهه أمام الكاميرا، ويُقال للناس، هو بخير.. إذن انتصرنا.
أيّ مستوى من الانحدار العقائدي هذا الذي يجعل مجرد بقاء الرجل على قيد الحياة حدثًا كافيًا لتجاوز خسارة نصرالله، وصفي الدين، والسنوار، وهنية؟ بل أي عقل يمكنه أن يبلع أن قائدًا محوريًا يسقط مثل السنوار، ولا تُعقد له جنازة سياسية؟ أن رجلًا مثل نصرالله، الذي تماهى مع صورة الولي الفقيه، يُمحى فجأة، وكأن وجوده لم يكن أكثر من زينة خطابية في خطاب محور طويل؟
المشكلة في “مركز العقيدة”، لا في تفصيلها، فخامنئي لم يكن، ولن يكون، نبيًّا، ولا مُلهمًا، ولا قائدًا عسكريًا، بل هو وليّ فقيه صعد إلى السلطة بوصفه بديلاً مؤقتًا عن الإمام الغائب في نظرية الاثني عشرية، تلك النظرية التي وُلدت من مأزق تاريخي، الإمام الثاني عشر اختفى، فمَن يحكم باسمه؟ جاء الخميني بفكرته العبقرية.. “النيابة العامة”، أي أن كل فقيه جامع للشرائط يصبح نائبًا عن الغائب، لكن حين أمسك الفقيه الدولة، لم يعد نائبًا.. بل إمامًا جديدًا. لا يخطئ، ولا يُنتقد، ولا يُساءل، لأنه، ببساطة، الحاكم بأمر الغياب.
وهنا، تظهر عقدة الحوثي في اليمن، إذ أن عبدالملك الحوثي لا يتبع هذا المسار، فالمذهب الزيدي الذي يستند إليه، لا يؤمن بإمام غائب، بل يشترط على الإمام أن يظهر، وأن يدعو الناس إلى طاعته، وأن يحمل السيف، بمعنى آخر، الحوثي، بمقتضى مذهبه، هو الإمام الشرعي، الحاضر، المجتهد، القائم، وهو بهذا، يتفوق على خامنئي، الذي لا يزال في عين مذهبه “نائبًا عن غائب.”
فهل تتحمّل طهران هذه المقارنة؟ وهل تقبل أن يكون إمام صعدة أعلى منزلة من إمام قم؟ وهل يسمح عبدالملك الحوثي لنفسه أصلًا أن يُفصح عن هذه الأولوية المذهبية، وهو الذي يدين بوجوده المالي والعسكري والسياسي لخامنئي؟ إننا أمام مأزق مزدوج: إمام يدّعي التفويض الإلهي من غائب لم يُشاهد، وآخر يدّعي الحضور الحي، لكنه لا يجرؤ على منازلة الإمام الأعلى سياسيًا.
ووسط هذا الصراع اللامعلن، تسقط الحقائق على الأرض كأشجار اليابسة، إسرائيل، حين ضربت مقار “المحور”، لم تفرّق بين مذهبين، ولا بين وكالة وأصل، ضربت قادة، ومراكز، ومراقد، وكأنها تسأل العالم الشيعي بأسره.. أين هو الإمام؟ أليس من المفترض أن يكون حاضرًا في هذه اللحظة؟ أليس هو القادر على قلب المعادلة؟ فأين هو؟ في قم؟ في صعدة؟ في سرداب الغيبة؟ في صور الحائط؟ أم في ذاكرة خرافية لا تعرف كيف تصوغ ردًا واحدًا على صاروخ موجه؟
ومما يزيد فضيحة الهروب وضوحًا، أن منظومة الممانعة التي طالما تباهت بأنها لا تموت بموت أفرادها، عادت وكرّست المعنى المعاكس، الكل قابل للاستبدال ما عدا خامنئي، وكأن كل محور المقاومة، من نهر الليطاني إلى غزة إلى صنعاء، ليس أكثر من حزام ناسف يُرتدى حول “الإمام” ويُفجَّر عند الحاجة، وهل هناك أوضح من إعلان “الفيتو الأميركي” على استهداف خامنئي بينما يُترك حلفاؤه يُصفّون الواحد تلو الآخر؟
والمفارقة الأشد مرارة، أن هذا المشهد تكرّر من قبل، لكن في الطرف السني، جهيمان العتيبي، أسامة بن لادن، أيمن الظواهري، أبوبكر البغدادي.. كلهم نُصّبوا قادة، أو أئمة، أو خلفاء، وكلهم اختبأوا كالفئران ثم سقطوا، وكل الجماعات التي اتبعتهم، لم تسأل يومًا.. هل كانت العقيدة خطأ؟ بل أعادت تدوير الأزمة، وابتكرت قائدًا جديدًا، وشعارًا جديدًا، وشهادة جديدة، فقط لتُقتل مرة أخرى على يد خصوم يعرفون الحقيقة.. أن الأسطورة لا تقف أمام الطائرات.
العقل الشيّعيّ السياسي، الذي يصفق اليوم لظهور خامنئي، يكرّر نفس الفخ. لا مراجعة، لا نقد للأخطاء، لا وقوف أمام النفس، فقط، صورة، فقط، بقاء بيولوجي، فقط، مهرجان تمجيد، تُسقط فيه قامات حقيقية، ويُمسَح فيه تاريخ أناس قاتلوا، فقط لأنهم ليسوا “الإمام”، وكأن الجماعة لا تحتاج إلا صورة زعيم، أما الدماء، فتُهدى للإعلام.
هكذا تُختصر السياسة في صورة، وتُختزل العقيدة في نبض قلب واحد، بينما تختنق الجماهير في بيروت وصنعاء وغزة، ويخرج علينا الإعلام الإيراني ليبشّر بأن المرشد بخير، وكأن الأرض لا تحتاج خبزًا، بل حضورًا مقدّسًا، وكأن الأوطان لا تُبنى على المؤسسات، بل على السراديب.
قال ابن خلدون: “إذا رأيت الناس يعظمون القبور أكثر من الفكرة، فاعلم أن الدولة إلى زوال،” ونحن اليوم، لا نعظم القبور فقط، بل الصور، والظلال، وغياب الصوت، والبقاء الجسدي الذي لا يحمل مسؤولية، نكتب بيانات نصر على جثث حلفائنا، ونقيم المجالس لعاشوراء، بينما تسقط الخارطة الإيرانية تحت الضربات، وتُرسم خرائط جديدة لا نملك فيها قلمًا ولا مقعدًا.
فليخرج علينا الإمام، أيًّا كان اسمه، من طهران أو صعدة، وليقل لنا.. ماذا بقي من كل هذا المشروع؟ هل المشروع هو أن ينجو خامنئي فقط؟ هل الأمة تُبنى من خُطبة عاشوراء؟ هل الدولة تستمر لأن صورةً التُقطت لقائدٍ يرتجف؟ أم أن كل ما بناه محور الممانعة، من الدم إلى السلاح إلى التضحيات، قد تلاشى، فقط لأن الإمام الأعلى قرر أن يبقى ساكنًا؟
هذه مهزلة لا تليق بعقل، ولا بزمان، ولا بشعوبٍ سئمت أن تُقاد باسم الله، ثم تُقتل باسم الإمام.العرب
هاني سالم مسهور